هكذا من حيث وحدة الموضوع.. فإذا رحنا نتبين الخصائص النفسية لهذا الحكيم الصلاح واجهتنا الحكمة ممثلة في طريقته نفسها، فهو يسوق مواعظه في أرق الأساليب وأبلغها وقعاً، فيبدأ كل زمرة من تلك الفضائل بذلك الخطاب المؤثر المشحون بالإشفاق:{يَا بَنِي} ...ثم لا يكتفي بصيغة الأمر والنهي في عرضها، بل يعمد إلى دعمها بالتعليل المقنع فهو ينهاه عن الشرك لأنه ظلم عظيم، ويحذره من التهاون بصغائر الذنوب لأن الله لطيف خبير، وهو يحضه على الاستمساك بالصبر لأن تكاليف الإيمان والدعوة من الأعباء التي تتطلب العزائم الضخمة، وهو ينفره من التصعير المرح لأن الله لا يحب أهلهما، وينصح له بالأناة والرصانة لأن الخروج منهما دخول في صفة الحيوان الذي لا يعرف الآداب ...ولكي ندرك روعة التنسيق في أسلوب هذه الآيات نأخذ الآية السابعة عشرة كمثل من ذلك. أنه يدعو ولده إلى أربعة أشياء: الصلاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر. وكان ممكناً أن يبدأ بأي منها. ولكنه آثر البدء بالصلاة وقيدها بالإقامة لتكون أدل على كمالها.ومن ثم لتؤدي وظيفتها كاملة في رفع طاقاته النفسية فإذا تم له ذلك حُبِّبَ إليه الأمر بالمعروف، وقدم ذلك على النهي عن المنكر، لأن دعوة الناس إلى مهجور الخير أوقع في قلوبهم من دعوتهم للإقلاع عن مألوف المنكر.. فإذا مرن على ذلك سهل عليه الانتقال إلى ما بعده ولكن هذه أعباء ثقال لا يطيقها إلا أولو العزم من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ...فلتكن الوصية بالصبر أخيراً. ثم ليأت بيان أهمية ذلك تذييلاً شاملاً لهذه الأحكام جميعاً {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} .