ومن هنا يمكن القول بأن البيت الحرام كان موجوداً قبل بنائه على يد إبراهيم خليل الرحمن. وأن هذا البيت كان قد جرت عليه أحداث غيرت من طبيعته. وأخفت مكانه فكان من رحمة الله بعباده أن أمر خليله ببناء البيت ورفع قواعده. وظلت قداسة البيت أمراً مسلماً به لا خلاف عليه من أهل مكة وأهل البادية. ورغم تفشى عبادة الأوثان في سواد القبائل العربية المحيطة بمكة. فإنه لم يرد عنهم أنهم عبدوا هيكل الكعبة. ولم يعبدوا الحجر الأسود رغم تسليمهم بقدسيته واحترامه ومكانته حتى كادوا يقتتلون على من هو أولى بوضعه في مكانه. حين تدخل الرسول قبل البعثة فأقترح وضعاً حقن برأَيه هذا الدماء فأشرك القبائل في شرف حمله ووضعه صلى الله عليه وسلم في مكانه.
وكانت العرب لا تقسم بالكعبة أو بالحجر الأسود. وإنما تقسم برب الكعبة. وهكذا استجاب الله لخليله حين دعاه بقوله:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} لم يتخذ البيت عمارة إبراهيم وإسماعيل صنماً يعبدونه وظلت مكانته مرموقة فأعاد قصي بن كلاب في القرن الثاني قبل الهجرة بناءه وبنته قريش قبل المبعث واشترك الرسول في أمره [٣٠] .
الرسول يراعي حرمة مكة: ظلت الدعوة في مكة. كان الرسول خلال ثلاثة عشر عاماً يؤمر بالصبر. قال الله تعالى له:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}(الأحقاف: ٣٥) ولم يشرع القتال في مكة لمقامها الذي يعرفه من حرمها من أول يوم. حتى أن الرسول بعد بيعة العقبة الثانية أنذر به الشيطان (هل لكم في مذمم والصبأة معه قد اجتمعوا على حربكم) قال الرسول لمن بايعوه تلك البيعة الأخيرة:"أرفضوا إلى رحالكم". قال العباس بن عبادة بن نضلة:"والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا؟. قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بهذا، ولكن ارجعوا إلى رحالكم"[٣١] .