فرأى من حسن السياسة أن يبعد أصحابه عن مكة ليرتاحوا فترة من الزمن حتى يقضي الله بأمره، ولم يكن ذلك إلا بوحي من الله تعالى، فالقرآن كان قد بدأ يهيئ نفوس المسلمين لترك الوطن والأهل والمال في سبيل الله، بحيث لا تكون هذه الأشياء عقبة في سبيل نشر الدعوة وإقامة شعائرها، فقال الله تعالى:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[٣] . وقال:{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[٤] .
بعد هذه التوجيهات والتلميحات قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"لو خرجتم إلى أرض الحبشة فان بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه "[٥] . فخرجت [٦] عند ذلك جماعة من المسلمين في رجب من السنة الخامسة من البعثة إلى أرض الحبشة، فكانت أول هجرة في الإسلام، إلا أنهم- بعد ثلاثة أشهر رجعوا إلى مكة لما بلغهم من إسلام أهلها، حتى إذا دنوا منها، عرفوا عدم صحة ما بلغهم من إسلام هؤلاء، فلم يدخل فيها أحد منهم إلا بجوارٍ أو مستخفياً، وعاد بعضهم الآخر إلى الحبشة ثانية [٧]