ثم إن هؤلاء العائدين إلى مكة، لم يلقوا من قريش إلا ما كانوا يواجهون من قبل من عنف وتعسف، فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج مرة ثانية إلى أرض الحبشة، فخرج [٨] هذه المرة حوالي ثمانين رجلاً وبضع عشرة نسوة. بعد مقارنة الراويات في هذا الصدد يبدو أن جميع المهاجرين الذين أقاموا في الحبشة، يبلغ عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً، وثماني عشرة نسوة، منهم إحدى عشرة امرأة قرشية، وسبع نسوة غير قرشية. ونزلوا جميعاً في جوار النجاشي، فكانوا في خير دار إلى خير جار، آمنين أحراراً على دينهم، ولم يخشوا ظلماً ولم يسمعوا مكروهاً، بل كان لهم عنده منزلة، وكان يرسل إليهم فيسألهم عما يريدون [٩] .
ولم تكن الهجرة إلى الحبشة اعتباطاً أو فراراً كما يظنه بعض الكتّاب- مؤولاً ذلك إلى الفرار بالدين، ولكنها كما يبدو بعد إمعان النظر- وقعت بعد دراسة عميقة دقيقة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى. وقد دل تحقق النتائج التي توقعها النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الهجرة على مدى عمق تفكيره، وحسن تدبيره، وإداركه الأمور، واتخاذه أسلوباً حكيماً مواطئاً للظروف القائمة في نطاق وحي الله تعالى.
فالهجرة كانت ذات نتائج عظيمة، ولم تكن مجرد فرار بالدين مخافة الفتنة، أو طلباً للمأوى في الحبشة فحسب، أو لم تكن أسبابها ما قاله المستشرقون كذباً وافتراءً على الإسلام لإظهار ضعف أهله، والتشكيك في نوايا دعاته. وخلاصة أقوالهم: أن تلك الهجرة كانت للأسباب التالية:
أولاً: الهروب من الاضطهاد ...
ثانياً: البعد عن خطر الارتداد.
ثالثاً: ممارسة النشاط التجاري.
رابعاً: السعي للحصول على مساعدة عسكرية من الأحباش.