ولم يكن كل من خرجوا في هذه الهجرة فقراء، ليس لهم منعة ولا قوة، بل كان أكثرهم ذوي شرف ومكانة في قومهم، وأولى ثروة ومال، وكان لهم من عصبتهم ما يدفع الأذى عنهم إلى حد كبير أمثال: عثمان بن عفان، وابن عوف، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم ممن هم في الذروة من النسب، ولهم مكانة وجاه بين قريش. أما الموالي المستضعفون الذين لاقوا التعذيب فلم يهاجر منهم إلا قليل، وقد كانوا أحق بالهجرة والنجاة من غيرهم، فلماذا هاجر الأقوياء وبقي المستضعفون، إن كان الفرار هو الهدف من الهجرة؟ ... ولماذا هاجرت نساء من بين أشراف قريش كرقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهن. ولم تتعرض إحداهن لأذى أو فتنة؟ [١٠] .
وعلى هذا يبدو أن إيذاء قريش للمسلمين لم يكن هو وحده السبب للهجرة، بل كانت هناك عوامل أخرى سيأتي ذكرها.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هجرة المهاجرين إلى الحبشة مثل هجرة المهاجرين إلى المدينة التي لا تخفي أهميتها على أحد، حيث صرح بذلك حينما ذكرت له أسماء بنت عميس قال لها عمر:"سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله عنكم". فقال صلى الله عليه وسلم:" ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أصحاب السفينة هجرتان "[١١] .
ولنوجز الأسباب الظاهرة التي من أجلها أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة، وخاصة إلى الحبشة، وذلك فيما يلي:
أولاً: اشتد تعذيب قريش على المسلمين، وطفحت كأس صبرهم، حتى جاءوا يسألون النبي عليه الصلاة والسلام:"متى يأتي نصر الله؟."فأذن لهم بالهجرة إلى الحبشة صوناً لدينهم، وحماية لهم من أذى قريش. وتلك سنة من الله شرعها لمن ضيق عليه إلى يوم القيامة، عند عجزه عن الظهور بدينه، إذا منعه أهل الباطل من العمل بها أو الدعوة إليه [١٢] .