ألا ترى لما خاب أمل الوفد المبعوث من قبل قريش إلى نجاشي الحبشة في اليوم الأول، قال عمرو بن العاص أحد العضوين للوفد:"والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم". فقال صاحبه عبد الله بن أبى ربيعة:" لا تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا"[١٥] . وإن في خبر زوجة عامر بن ربيعة مع عمر بن الخطاب لأبلغ دليل على الأسف الذي داخل بعض قلوب الكفار من مغادرة ذوي أهلهم وهجرتهم إلى الحبشة. وذلك أنه مر عمر بن الخطاب بأم عبد الله بن عامر وهى تستعد للرحيل إلى الحبشة، وكان زوجها قد خرج لقضاء بعض حاجاته، فقال لها عمر:"إنه للانطلاق يا أم عبد الله"، فردت عليه وذكرته بالأذى والبلاء والإهانات التي يتعرضون لها. وقالت:"نعم والله لنخرجن في أرض الله، آذيتونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا فرجاً ومخرجاً "، فقال:"صحبكم الله". فأحست رقة في نبرات عمر لم تكن تعهدها من قبل وقد عرفت عنه قسوته على المسلمين، فلما عاد زوجها أخبرته بما بدا على عمر، وقالت:"يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا"، قال:"أطمعت في إسلامه"، قالت:"نعم". قال:"فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب".
رابعاً: إن في خروجهم إلى الحبشة إشارة إلى حقيقة كبرى، وهى أن الدعوة الإسلامية لم تكن لتنحصر في مكة أو الجزيرة العربية أو أي بقعة خاصة في الأرض، بل إنها موجهة إلى جميع العالم، ولهذا لما وصل المهاجرون إلى أرض الحبشة لم يكونوا صامتين، أو قائمين بالشعائر في مجالسهم فقط، أو عاكفين في بيوتهم فحسب، بل أظهروا مظاهر الإسلام. ومن نتائج واقعهم هذا قدوم وفد النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وإسلام النجاشي حتى أصبح داعياً إلى الإسلام، فكان عمرو بن العاص من الذين أسلموا على يديه، كل ذلك من نتائج جهود المسلمين المهاجرين وآثارها [١٦] .