مضى ذلك اليوم على خلاف أمسه فقد عمدت إلى الطعام كما كنت أصنع قديما، وبديت باشا ضاحكا أمام أمي وإخوتي، ولعلهم استغربوا حالي, إلا إنهم رأوا مني عزوفا عن مزاح بارد كنت أعكف عليه, وأغنيات تافهة كنت أرددها, ورأوا مني منظرا ما عهدوه في حياتي إلا قليلا، ذلك أني صاحبت المصحف وعنيت بالتزام صلاة الجماعة.
وعادت السيارة بعد أيام لينطلق بي منحدرة من تلال الزبداني نحو مدينة دمشق، فموعد الصورة الجديدة الصوري وزرع الجراثيم في هذا اليوم, لكن السيارة كانت هادئة فلم يكن فيها صخب ولا هرج ولا مرج، وإنما تمتمة بسيطة لشاب هادئ وادع يسرج نظره في المصحف حينا وفي المناظر حينا آخر.
كان كل شيء ذلك اليوم رائعا وجميلا في مظهري، فالشمس باسمة مشرقة دافئة حلوة تحن الأرض إلى أشعتها تنفض بها عن شعرها قطرات الندى التي صبها عليها الليل قبل أن يرحل, وكانت الأشجار تهتز طربة فرحة على أنغام الطيور والعصافير, وقد اكتست من خضرة الثوب ما راق, وتوشي بدنانير الذهب وورق الخريف, وكان النسيم يهب ناعما رقيقا لينا, وكأنه أم تمر بيدها على خد وليدها تداعبه وتخشى عليه.. دخلت المستشفي وقلبي تسيطر عليه السكينة التي يدافعها الأمل بالشفاء والخوف من المرض، ووقفت على كوة الموظف فدفعت إليه بالورقة المقومة للصورة.. وأخرج الرجل ظرفا كبيرا، راح يقرأ ما كتب على غلافه باللغة الأجنبية، ثم استأذنني قليلا ودخل غرفة الطبيب.