فأعجب بالقصيدة، وقال لها:"لولا أن أبا بصير- يعني الأعشى- أنشدني لقلت: إنك أشعر الجن والإِنس ". فالأعشى إذن أشعر الذين أنشدوا النابغة، والخنساء تليه منزلة وجودة شعر [٤٠] .
ومن الأمثلة على هذا اللون من النقد الذي يقوم على المفاضلة بين الشعراء ما روى أن رهطاً من شعراء تميم اجتمعوا في مجلس شراب، وهم: الزبرقان [٤١] بن بدر، والمخبل [٤٢] السعدي، وعبدة [٤٣] بن الطبيب، وعمرو [٤٤] بن الأهتم، اجتمعوا قبل أن يسلموا وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وتذاكروا أشعارهم، وقال بعضهم:"لو أن قوماً طاروا من جودة الشعر لطرنا "، فتحاكموا إلى أول من يطلع عليهم، فطلع عليهم ربيعة بن حذار الأسدي أو غيره في رواية، وقالوا له:"أخبرنا أينا أشعر؟ "فقال:"أما عمرو فشعره برود يمنية تطوى وتنشر، وأما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى جزوراً قد نحرت، فأخذ من أطايبها، وخلطه بغير ذلك، أو قال له: شعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، ولا ترك نيئاً فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء"[٤٥] وفي رواية أخرى أنه قال لعمرو: "وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرود حبر، يتلألأ فيها البصر، فكلما أعيد فيها النظر نقص البصر، وقال للمخبل: وأما أنت يا مخبل، فإن شعرك قصر عن شعرهم وارتفع عن شعر غيرهم، وقال لعبدة: وأما أنت يا عبدة فإن شعرك كمزادة أحكم خرزها، فليس تقطر ولا تمطر"[٤٦] .
ومن الأمثلة على هذا اللون- أيضاً- ما روي أن امرؤ القيس [٤٧] كان جالساً بخبائه، وعنده زوجه (أم جندب) الطائية، فجاءه علقمة [٤٨] بن عبدة التميمي، وتذاكرا أمر الشعر، وادعى كل منهما لنفسه فيه ما ليس عند صاحبه، فاتفقا على أن ينشدا، وتحكم بينهما (أم جندب) فقال امرؤ القيس قصيدته التي مطلعها: