للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما عدم ردهم على القرآن بنحو بلاغته وفصاحته، فهذا دليل واضح، وسلطان بين على مبلغ إدراكهم لبلاغة القرآن، وأنهم لن يستطيعوا أن يجاروه فيها، ولذا لم يكن أمام عجزهم الواضح عن ملاحقة بلاغة القرآن، والرد عليها بنحوها أو مثلها إلا قولهم العاجز:"سحر مفترى"،" أساطير الأولين". ولعل قصة الوليد بن المغيرة، حينما تلا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صدراً من سورة (فصلت) وكيف سجد لفصاحة القرآن. وقال فيه قولته الشهيرة: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً، ما هو بكلام الإنس ولا من كلام الجن، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلى عليه " [٥٤] لعل هذه القصة خير دليل على مدى فهمهم للبلاغة، وقوة بيانهم، وإلا فكيف أدرك الوليد هذه البلاغة القرآنية، لو لم تكن لديهم هذه الروح البيانية، التي ينكرها عليهم ويسلبها منهم هذا الناقد!!

إن هذه دعوى تنقصها الحجة الواضحة، وتنقضها مخالفة الواقع، بل فيها مماراة مكشوفة، وظلم للعقل العربي الجاهلي!

طبيعة أحكامه:

لعلنا نستطيع- من خلال ما تقدم من حديث عن ملامح النقد الجاهلي ومقاييسه- أن نستشف طبيعة الأحكام النقدية في هذا العصر، وأن نقف على سماتها وملامحها.

وأول سمة لهذه الأحكام: هي سمة العموم: ونعنى بها أن يطلق الناقد- في أحيان كثيرة- أحكامه، ويرسل آراءه، دون أن يذكر سبباً، أو يردف علة، وخير مثل لذلك قول الحطيئة- وقد سئل عن أشعر العرب-: أشعر العرب الذي يقول:

يفره ومن لا يتق الشتم يشتم

ومن يجعل المعروف من دون عرضه

يقصد زهيراً. وسئل: ثم من؟ قال الذي يقول:

وسائل الله لا يخيب

من يسأل الناس يحرموه

ومن ذلك حكمهم على بعض القصائد بأنها بالغة منزلة عليا في الجودة بالموازنة بغيرها، كقولهم في قصيدة سويد [٥٥] بن أبى كاهل اليشكري التي مطلعها: