السمة الرابعة: التأثرية والذاتية: ونعنى بهما أن الأحكام النقدية كثيراً ما تكون قائمة على إحساس الناقد بأثر الشعر في نفسه، وعلى مقدار وقع الكلام عنده، فالحكم مرتبط بهذا الإِحساس قوة وضعفاً، وإحساس العربي بأثر الشعر إحساس فطري، وتذوقه له طبيعة وجبلة، ومن هنا يكون حكمه- في كثير من الأحايين- قائماً على ذوقه وفطرته، فهما اللذان يهديانه إلى الجيد من فنون القول، وإلى المبر زمن الشعراء. وهذا يعنى أنه ليست لديه مقاييس مقررة، ولا أصول معروفة للحكم على الجيد من الكلام، أو المبر زمن الشعراء، ليس لديه غير طبعه وذوقه، وإلا فعلى أي أساس كانت قريش تقبل من الأشعار ما تقبل، وترد ما ترد؟ وما الخصائص الفنية في قصيدتي علقمة حتى تكونا نفيستين؟ وما الذي كان رائعاً في قصيدة الخنساء حتى فضلت على حسان؟ وماذا حوت قصيدة حسان في أبناء (جفنة) حتى بترت جميع المدائح؟ تلك أحكام لا تقوم على تفسير أو تعليل، ولا تستند على قواعد مقررة، وليس لها من دعامة إلا الذوق العربي المحض [٦٠] .
وبعد: فمهما يكن من شيء فإن هذه اللمحات النقدية الأولية، التي مارسها النقد في العصر الجاهلي، قد لعبت دوراً لا بأس به في تقويم الشعر العربي القديم وهدايته ومعاونته على الوصول إلى الكمال، أو على الأقل إلى أولى درجات الكمال، وأنها أشارت- أيضاً- إلى أن كلاً من الشاعر العربي والناقد العربي الجاهليين، كان يعرف الأسرار الدقيقة لهذا الفن الأدبي، فأهل يثرب (المدينة) يعرفون الإقواء، والنابغة الذبياني يلحظ- في دقة- الفرق بين جموع القلة وجموع الكثرة، وإن كانوا جميعاً يعرفون ذلك ذوقاً وفطرة لا علماً وفناً.
ولاشك في أن هذا التحليل الدقيق، إنما هو لون من ألوان النقد الأدبي الصحيح، الذي يقرب النص الأدبي، إلى الملتقي ويقدمه إليه، وإلى صاحبه نفسه- كذلك- بعد شرحه وتفسيره.