الثاني: إن ترك الحرية للقاضي ليقضي بعلمه يمكن من لا خلاق لهم من القضاة بالتلاعب بالأحكام بتقتيل من يخالفهم وتفسيقهم وتجريح من يبغضهم، وتمييز من يواددهم، وتغيير الأحكام بناء على أطماعهم وأهوائهم الشخصية.
ولهذا فإن هذا القول أرجح من سابقه وأظهر وأكثر ملاءمة لوقتنا الحاضر. وبه أفتى المتأخرون من علماء الشريعة، وذهبوا إلى منع ذلك منعا باتا بناء على ما تقتضيه المصلحة العامة حيث فسد الناس وعمت الفوضى وخربت الذمم، وأصبح الاختيار لمنصب القاضي لا يقوم على ما كان عليه عند أسلافنا من تحري التقوى والورع.
يقول الشيخ أحمد إبراهيم رحمه الله:"الحق أن الاحتياط في ذلك واجب بل هو من أعظم مطالب الشريعة الحكيمة العادلة، فلا نسلم للقاضي بما يقضي به ولا نقره عليه إلا إذا بين أسبابا مقنعة وحججا واضحة استند في قضائه عليها يزيل بها التهمة عن نفسه وبدون ذلك لا توجد الطمأنينة في نفس أحد"[٢١] .
ويقول الدكتور محمد البهي رحمه الله:"أما إذا منعناه من القضاء بعلمه فالضرر الذي يترتب على هذا المنع محدود الدائرة ضيق الأثر لأنه لا يتعدى بعض المتقاضيين، أما نفعه فإنه يعود على المجتمع كله، فيأمن الناس معه على أعراضهم ودمائهم وأموالهم، كما أنه حماية للقاضي ومكانة القضاء من أن تزلزل في نفوس الناس ويهن شأنها في نظرهم"[٢٢] .