يذكر علماء التاريخ، والسير بأنها تقدر بعشرة قرون، إلى أن بدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام، والأوثان، بسبب الغلو في الصالحين. فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت". فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو، بطريق التدريج، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمناً طويلاً إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم. ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير، ويشب عليها الصغير إلى أن بعت الله فيهم نوحاً عليه الصلاة والسلام فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه فأصروا واستكبروا استكباراً، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.
وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو، ومجاوزة الحد، واتباع الهوى الذي أدى بالناس إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى. وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير ما آية.
والغلو هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه، وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله تعالى:{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . وكذا قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} . أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.