كانت زعامات قريش المشركة تدرك أبعاد اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبائل وبخطر ذلك على كيانها وعقيدتها وزعامتها الدينية والسياسية فكانت تعمل للحيلولة دون هذه الاتصالات، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك قوة قريش وتزعّمها للعرب وقوة تأثيرها، ولذلك أحاط اتصالاته هذه بمنتهى السرّية، ورغم ذلك فقد تسللت الأخبار إلى قريش فجاء وفد منهم إلى اليثربيين وتهدّدوهم، فحلف لهم عبد الله بن أبيّ أنه لا علم له بذلك، وكان لا يعلم بالفعل، وتعقب بعض قريش مسلمي يثرب وقبضوا على بعضهم وضربوهم وعذبوهم [٣٠] .
بدأت بيعة العقبة الثانية مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأتباعه بالهجرة قائلا:"إن الله عز وجلّ قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها"[٣١] . فأخذ المسلمون يتجهزون بسرعة وفي ستر وخفية، فخرجوا جماعة بعد جماعة وفرادى، وأخذت مكة تقفر من المسلمين يوماً بعد يوم، وزعماء قريش يلحظون ذلك والغيظ يملأ قلوبهم وقد خرج الأمر من أيديهم، حتى لم يبق في مكة من المسلمين غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب، فلجأوا إلى آخر سهم ليسددوه إلى الدعوة الإسلامية في قلبها وصميمها، للقضاء على محمد صلى الله عليه وسلم نفسه، في الوقت الذي كان يعدَّ للهجرة واللحاق بالمسلمين.
اجتمع مشركوا قريش في دار الندوة فتشاوروا في أمر الدعوة الإسلامية ففكروا في ثلاث وسائل وهي: حبسه صلى الله عليه وسلم أو اغتياله أو نفيه. قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} . (سورة الأنفال: ٣٠) . واتفق رأيهم أخيراً على قتله شريطة اشتراك شبان من مختلف بيوتات قريش حتى يتوزع دمه فلا يستطيعِ آله المطالبة بدمه.