غير أننا نلاحظ خلافا بين الفقهاء في قبول الكتابة كدليل إثبات للحقوق، والذي يبدو لي من أغلب عباراتهم أنهم يقصدون المكتوب الذي لم يشهد عليه كإقراره بدين أو بحق لآخر بخط يده، أو كتابته لهبة لم يشهد عليها، وكذلك الأوراق التي لا تصدر من جهة رسمية، فإن بعض الفقهاء يرون أن مثل هذه المكاتيب لا يثبت القاضي بها ما تضمنته من حقوق لعدم تيقن صدورها من المنسوبة إليه ولإمكان تزوير الخطوط.
وقد أبرز ابن القيم رحمه الله هذا الخلاف في كتابه الطرق الحكمية في فصل (الطريق الثالث والعشرون- الحكم بالخط المجرد) ومن أقواله في ذلك:
"أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان، فيطلب منه إمضاءه والعمل به فقد اختلف في ذلك، فعن أحمد ثلاث روايات، إحداهن: أنه إذا تيقن أنه خطه نفذه وإن لم يذكره، والثانية: أنه لا ينفذه حتى يذكره، والثالثة: أنه إذا كان في حرزه وحفظه نفذه وإلا فلا".
"والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم ولا في الشهادة، وفى مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظا عنده كالرواية الثالثة عن أحمد".
"وأما مذهب أبي حنيفة، فقال الخفاف، قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يحفظه- كإقرار الرجل بحق من الحقوق- وهولا يذكر ذلك ولا يحفظه، فإنه لا يحكم بذلك ولا ينفذه حتى يذكره".
"وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكره لإمكان التزوير عليه".
"وقال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأحمد: الرجل يموت وتوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها أو أعلم بها أحدا، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ قال: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط فإنه ينفذ ما فيها".
"قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية".