للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما المدح فقد علمنا أن الموالاة يتحكم فيها ترتيب منطقي مُنسَّق: تقرير السجايا نوعاً وكماً - التدليل عليها - علة وجودها أو نشوئها - آثارها الخلقية والسلوكية - شواهد لها وأدلة - تلخيص وخاتمة.

هل تظفر خطة أو مقالة حديثة بترتيب أرصن وموالاة أحكم؟

أليست هذه الموالاة تشهد بفكر منظم يفحص المعاني المتوالدة أو المتتابعة ويلحق كلاً بجنسه وفق نسق المدح الذي فصلناه؟

إن هذه القصيدة مدينة - في الحق - إلى القدرة الفكرية الخلاقة لدى الشاعر، إلى ملكة التحليل المنطقي لطبيعة الحقائق تحليلاً يستوفي الجوانب والخصائص جميعًا. ألا نرى كيف بنى (٢٧) بيتاً يا المدح على معنيين اثنين هما: الكرم والشجاعة، ثم ذهب فكره فيهما كل مذهب حتى استوف له منهما مدح معجب يتقدم به شعراء عصره؟

(٤) توليد المعاني:

وصف بشار نفسه مرة بذكاء القلب، "حسبه شاهداً إبداعه هذه القصيدة، وليس من مظاهر فكره الخلاق الترتيب وحده، فإنه يهتدي إليه بشيء من ترداد النظر، وفحص المعاني لتحقيق المشاكلة فيما بينهما، بل توليدُ المعاني بعضها من بعض أيضاً وتوسيعها وطريقة عرضها.

ويعتمد توليد المعاني في هذه القصيدة على القدرة التحليلية، ألا نرى أن بشاراً كان له أن يكتفي بالمطلع المستطرف:

واحذرا طرف عينها الحوراء

حييا صاحبي أم العلاء

ولكن قوة الفكر المحلل لا ترضى إلا أن تشتق من الشطر الثاني بيتاً آخر يكون للأول رديفاً وظهيرًا:

لملم والداء قبل الدواء

إن في عينها دواء وداء

والاحتراس المنطقي في قوله "والداء قبل الدواء"هو ليدفع عن الشطر الأول ما قد يوهم به العطف من ترتيب يجعل الدواء قبل الداء. فلأيّ مدى يراقب بشار معانيه وهو يفتّقها، وبأية بصيرة؟