إن الرجل الذي وعى علوم عصره وثقافته، وحضر حلقات ومجالس علماء الكلام يمنح شعره ثمرة عقله اللامع القادح، ولعله بهذا التحليل الدقيق تفوق على الأقران، إنه ليس سهلا أن تضع الثقافة العميقة في خدمة الشعر إلا من تمثلها حق تمثلها ودخلت في صميم بنية فكره وفي منهج تفكيره.
والمدح في القصيدة مليء بأمثاله هذه التواليدات المعنوية وكان الترابط [٥٢] ما بينها نتيجة ممن نتائجها، إن قوله:
عقبة الخير مطعم الفقراء
٣٣ - حرّم الله أن ترى كابن سلم
يحتاج إلى برهان حسي، وكان البرهان:
الحـ ب وتغشى منازل الكرماء
٣٤ - يسقط الطير حيث ينتثر
ومن البرهان اشتق القاعدة اللازمة عنه "تغشي منازل الكرماء"وهو تتبع لفروع المعاني ناتج عن قوة المنطق التحليلي، وتوضيح الصفة بمثال، واستخلاص قاعدة من المثال.
وبذلك قدّر لبشار أن يوسّع قسم المدح من معنيين اثنين وكأنه في كل بيت منه يهب جديداً، وما هو إلا الفرع الأول أطلع غصنا من نسغه ولحائه.
(٥) الإحكام والربط:
وبشار يتوخى الإحكام في الصنعة المنطقية توخي شاعر يدفع الخلل ولو أسرف في توضيح ما هو واضح قال:
الخو ف ولكن يلذ طعم العطاء
٣٥ - ليس يعطيك للرجاء ولا
وأراد أن يبين أنَّ الشجاعة هي من لذة الممدوح مثل الكرم، فأراد المعنى في صياغة نظرية خالصة عارية من كل تلوين ليقرن إليها المعنى الثاني وتكون الإعادة وصلة معنوية، ليستوي البيتان في إحداث الأثر:
في عطاء ومركب للقاء
٣٦ - إنما لذة الجواد ابن سلم
ومن آثار الفكر المنطقي الذي يطلب الوضوح دائباً التكرارُ، وإذا كان التكرار في البيت الآنف يراد به حسن التأليف والربط فهو في مواضع كثيرة لمحض التأكيد مثل قوله:
المال ولكن يهينه للثناء
٣٨ - لا يهاب الوغى ولا يعبد
الني ل وأخرى سم على الأعداء