ولكن المسلمين في عهد أبي بكر وعمر كانوا لا يزالون في أبان الحمية الدينية والأريحية العربية ولذلك كانوا ينصاعون لأبي بكر وعمر بكلمة، وأما في أيام علي فقد تغيرت الأحوال وعدّ المسلمون سياسة علي ضعفا، فلما رأوا ضعفه انحازوا إلى معاوية بعد أن كانوا معه، وتنتهي المقولة إلى الاستنتاج بأن الفوز دائماً لأهل الدهاء وأن السياسة والدين لا يلتحمان إلا نادرا، وما التحامهما أيام الراشدين إلا فلتة قلما يتفق مثلها، وما دولة الراشدين برأي المقولة بدولة سياسية وإنما هي خلافة دينية [١٥٧] .
وقيل إن علي بن أبي طالب جاء يسير وفق الاتجاه الإِسلامي في ظروف استعلاء الاتجاه القبلي وانتصاره، وقد اصطدمت سياسة علي بالاتجاه القبلي في الكوفة التي كانت لا تفهم فكرة الدولة، ولم تتأثر بالتقاليد الحضرية وأفسد هذا الاتجاه على علي بن أبي طالب التفاهم مع خصومه في موقعة الجمل ودفعوه في معركة صفين إلى التحكيم كرها، وفرضوا عليه أبا موسى الأشعري، فكان بسياسته الإسلامية في هذه البيئة القبلية كمن يطرق في حديد بارد.
وأما معاوية فكان خروجه للمطالبة بدم عثمان على أساس قبلي واضح، لأن هذا واجب الدولة وحقها وليس حق الأقرباء، والتفاف الكثيرين حول معاوية يدل على قوة الاتجاه القبلي.
وعليه فإن الخلاف بين علي ومعاوية برأي هذه المقولة صدام بذهن ممثلي تيارين: بين ممثل التيار الإسلامي وهو علي بن أبي طالب، يسير على سياسة إسلامية في وسط قبلي فيصطدم بظروفه وبخصمه في آن واحد وبين ممثل التيار القبلي وهو معاوية بن أبي سفيان، يسير على سياسة قبلية في وسط قبلي، فلا غرابة أن انتصر معاوية لأن الظروف والأوضاع كانت مواتية لمعاوية وكان انتصاره انتصاراً واضحا للتيار القبلي، وكانت دولة الأمويين نتيجة طبيعية لتطور الأوضاع العامة في عصر الراشدين وتفوق الاتجاه القبلي بدون أن يحدث انقطاع في التطور التاريخي [١٥٨] .