وإضافة إلى كراهة من سبق ذكرهم من أهل المدينة للقتال بين المسلمين كان هناك في الكوفة من يدعو إلى القعود عن القتال واعتزال الفتنة مثل أبي موسى الأشعري، وكان يرى من اعتزل وكره الدماء هو من خيار الناس ممن قد خفّ ظهره من مظالم الناس [١٧٤] ، والقعود عن القتال واعتزال الفتنة اتجاه إسلامي عند هؤلاء أداهم إليه اجتهادهم وأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بهم، وليس بالضرورة بواجب، إذ لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل وكسر السيوف لما أقيم حد ولا أبطل باطل [١٧٥] ، فقد مال بالمقابل أغلب أهل الكوفة إلى علي بن أبي طالب وقاتلوا في طاعته في الجمل لاقتناعهم بحاجة الناس إلى إمارة تنظمهم وتزع الظالم وتعز المظلوم [١٧٦] ، وهي جميعاً لاشك مفاهيم إسلامية، ولكننا أوردناها لبيان الآراء والمواقف التي نجمت عن مقتل عثمان بن عفان ومعرفة منطلقاتها الفكرية وآثارها على الخلاف بين الأطراف.
وفي البصرة، اعتزل بعض أهلها مثل الأحنف بن قيس وقومه القتال في الجمل، ومنهم من ناصر الخليفة علي بن أبي طالب، ومنهم من ناصر طلحة وصحبه، وهي جميعاً مواقف وآراء ومفاهيم إسلامية، ولما مرّ علي بن أبي طالب بقتلى الجمل قال: إني لأرجو أن لا يكون أحد نقّى قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة [١٧٧] .
ولاشك أن ما هو أفضل من هذا الاختلاف في الآراء والمواقف أن يكون رأي الناس واحدا وجماعتهم واحدة، ولكن أنىّ يكون ذلك وقد جعل قتل عثمان والأجواء التي خلفها قتله تفكير الناس وآراءهم ومواقفهم في اختلاف!.
وبعد الجمل، خرج علي بالناس إلى صفين، وبعد أن نشب القتال في صفين واشتد، رفعت المصاحف ونودي إلى التحكيم، فتوقف القتال ونزل علي بن أبي طالب على التحكيم وأجاب، فَلِمَ أجاب علي إلى التحكيم ورضيه؟