ومن غير المعقول أن يمر أديب كبير مثل صاحب (حديث الأربعاء) بتلك الموبقات دون أن يلاحظ عليها طابع الافتعال، الذي يصور أوضاع فارغين حيل بينهم وبن السلوك الرفيع، وتدفقت عليهم هبات الحكم الذي قصد إلى شل فاعليتهم البناءة، فلم يجدوا سبيلا لإثبات ذواتهم سوى ميادين الغواية، فراحوا يتسابقون لا صناعة ذلك الشعر الذي يترجمون به أحلامهم الكمينة في صور محسوسة يُخيَّل لقارئها أنها منتزعة من صميم الواقع!..
ولكن صاحب (حديث الأربعاء) ما كان ليهمه من تلك المرويات سوى الامتاع والاستمتاع، كما فعل في كتابه الآخر (على هامش السيرة) فأحسن العرض الفني بمقدار ما أساء إلى الحقيقة الواقعية، وهو المنهج نفسه الذي سلكه في كتابه عن الأدب الجاهلي الذي جرَّأ به الغُواة على التشكيك في بعض حقائق الوحي تحقيقا لرغبة أساتيذه من المنصِّرين والمستشرقين..
وما مثله ومثل سلفه صاحب (الأغاني) في ذلك إلا كمثل أولئك الذين يقول الشاعر القديم فيهم:
أن يسمعوا ريبة طار ابها فرحا
عنى وما علموا من صالح دفنوا
وأخيرا.. إن مثل هؤلاء لا يسعد قلب المؤمن بصحبتهم فكيف إذا امتدِّز منها إلى المدى الذي اضطررنا إليه في هذا العرض، فلْنُنْهِ هذه الرحلةَ بالخاتمة التي اختارها صاحب الأغاني لأثيره كبير المفسدين إبراهيم بن ماهان الملقب بالموصلي. ويأبى الأصفهاني إلا أن يطبع هذه الخاتمة بسواة جديدة يلصقها بذكر الرشيد، إذْ جاءه الخبر بموت هذا الخليط العجيب - في يوم واحد - إبراهيم الموصلي والكسائي النحوي، والشاعر النظيف ابن الأحنف، وهُشَيمةَ الخمارة - بل القوادة على رأى اسحق في رثائه إياها - فما كان من الرشيد إلا أن ندب ابنَه المأمون للصلاة عليهم صفا - ٥/١٦٥ - وبذلك استوى هؤلاء الأربعة باستحقاق التكريم في دولة الخليفة العظيم- على رأي ذلك المفتري الأثيم-!.