ومن الثَّابت أن أبا الأسود صنع النَّقط الإعرابيّ في المصحف ضمّاً ورفعاً وكسراً وغُنَّة؛ لرعاية النَّصّ القرآني من اللَّحن، وقد روت المصادر أنَّ زياداً بعث إلى أبي الأسود، فقال له:"يا أبا الأسود؛ إنَّ هذه الحمراء قد كثرت، وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يَصْلُحُ به النَّاس، ويعْرب به كتاب الله ...
فقال: يا هذا قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليَّ ثلاثين رجلا.
فأحضره زياد، فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم مازال يختارهم، حتَّى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال له: خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتها فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتها فاجعل النُّقطة في أسفله، فإن اتبعت شيئاً من الحركات غنَّة فانقط نقطتين.
فابتدأ بالمصحف حتَّى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك".
ويُعدُّ النَّقط الإعرابي الَّذي وضعه أبو الأسود، ثم طُوِّر فيما بعد واستقرَّ على صورة الحركات الَّتي نعرفها اليوم من أعظم الخطوات في علم العربية بعامة والنَّحو بخاصة.
ولا جدال في أنَّ ما قام به أبو الأسود في هذا الشَّأن يُعدُّ عملاً منطقيَّاً، تتطلبه الحوادث، وتقتضيه الحاجات في ظروف ومناسبات خاصة، ولا يقدم عليه أحد من دون موافقة ولاة الأمر في عصره، ورعايتهم؛ لأنَّ الأعمال الفردية في أمر عظيم يتصل برسم المصحف لا يقدم عليها فردٌ بغير إجماع من علماء المسلمين، وتعضيد من وليّ الأمر.