للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويذكر معاصروه بعض أحواله في التعبد والتبتل حال سفره فيقول: ".. وفي صبيحة يوم السبت الموافق ٥رجب [١٣٤٥هـ] نهضنا من النوم وكان الليل مظلما والسكون سائدا ونسيم الصبا يهب هبوبا قارسا، وكان أول شيء طرق مسامعنا صدى صوت رخيم يخالط ذرات الهواء وهو يختلج في ذلك السكون، فدنوت مستقصيا عن مصدر هذا الصوت لما فيه من الرقة والعذوبة والخشوع في آن واحد، فلما قربت منه علمت أنه جلالة الملك يقرأ القرآن كما هي عادته في كل صباح قبل طلوع الفجر، وكان جلالته يتلو القرآن تلاوة يتخللها بكاء بخشوع عند قراءة آيات الترهيب خوفا من الله عز وجل، فمما لا ريب فيه أنه ليس هناك إنسان يسمع هذا الصوت بخشوع وقلبه يشعر إلا وعينه تدمع لمجرد سماع هذه القراءة الصادرة من ثغر ملك عظيم، ملأت عدالته جزيرة العرب من مشرقها إلى مغربها" [٢١] .

وقد رأينا فيما سبق ما جاء في وصيته لولي عهده وفيها: "وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه" [٢٢] .

ويتبين من هذه المقتطفات من عبادته وتقواه - وهي مظهر من مظاهر الأصالة - أنه كان في ذلك يترسم منهاج السلف، فلم تكن العبادة منحصرة عندهم في الشعائر التعبدية الظاهرة كالصلاة والزكاة فحسب، بل تشمل ذلك وتشمل معه كافة مسالك الصلاح والإصلاح.

ولم يكن التبتل والإخبات ساعات أداء الصلوات المفروضة فحسب، بل كان سمة لازمة تكلل حياتهم كلها بالتوفيق والسداد، لأن العقيدة الخالصة المبنية على مبدأ الإخلاص والتوحيد ليست إيمانا راسخا فحسب، بل هي مع ذلك عمل صالح يحفزه قلب منيب وضمير حي.

ج – طرف من أخلاقه: