وإن المتأمل ليستوقفه النظر حيال قبول الناس لهذا الرأي في فهم الضرورة؛ إذ لم يجد كثرة من الأنصار له على الرغم من أن أشهر الذين قالوا به هما سيبويه وابن مالك، والأول كان يعيش في عصر الاستشهاد ويستقي شواهده من المصادر الحية أو ممن سمعها من المصادر الحية، والآخر يعد أمَّة لا في الاطلاع على كتب النحاة وآرائهم فحسب، بل أيضاً في اللغة وأشعار العرب بله القراءات ورواية الحديث النبوي.
(ومعنى هذا أنّ رأي هذين الإمامين لما امتازا به من سعة رواية ونفاذ رأي ينبغي أن يكون له وزنه في دراسة اللغة؛ لأنه نابع من فهم لخصائصها أصيل وحسّ بها غير مدخول) .
لكن هذا الرأي قد تعرَّض لنقد شديد من المتأخرين كأبي إسحاق الشاطبي (٧٩٠هـ) ، وأبي حيان، وابن هشام (٧٦١هـ) ، والشيخ خالد الأزهري (٩٠٥هـ) ، وعبد القادر البغدادي (ت١٠٩٣هـ) .
وملخص رد الشاطبي على ابن مالك يتمثل في الآتي:
أولاً: أن النحاة قد أجمعوا على عدم اعتبار هذا المنزع، وعلى إهماله في النظر القياسي جملة، ولو كان معتبراً لنبهوا عليه.
ثانياً: أن الضرورة لا تعني عند النحويين أنه لا يمكن في الموضع غير ما ذكر؛ لأنه ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره، دليل ذلك الراء في كلام العرب، فإنها من الشياع في الاستعمال بمكان لا يُجهل، ولا يكاد ينطق أحد بجملتين تعريان عنها. وقد هجرها واصل بن عطاء (١٣١هـ) لمكان لثغته فيها، بل كان يناظر الخصوم ويخطب على المنبر فلا يُسمع في نطقه راءٌ، حتى صار مثلاً. وإن الضرورة الشعرية لهي أسهلُ من هذا بكثير، وإذا كان الأمر هكذا أدى إلى انتفاء الضرورة في الشعر وذلك خلاف الإجماع، وإنما معنى الضرورة أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظة ما اقتضت ضرورة النطق بها في ذلك الموضع زيادة أو نقص أو غير ذلك، في الوقت الذي قد يتنبه غيره إلى أن يحتال في شيءٍ يزيل تلك الضرورة.