ثالثاً: أنه قد يكون للمعنى الواحد أكثر من عبارة بحيث يلزم في إحداها ضرورة ولكنها هي المطابقة لمقتضى الحال، وهنا يرجع الشاعر إلى الضرورة؛ لأن اعتناء العرب بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ. وإذا تبيَّن في موضع ما أن ما لا ضرورة فيه يصلح هنالك، فمن أية جهة يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال؟
رابعاً: أن العرب قد تأبى الكلام القياسي لعارض زحاف فتستطيب المزاحف دون غيره أو بالعكس فتركب الضرورة لذلك.
ومن أقوال ابن هشام في الرد على ابن مالك قوله:"إذا فُتح هذا الباب - يعني زعم القدرة على تغيير بنية الشعر وألفاظه - لم يبق في الوجود ضرورة، وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر".
ومن أقواله أيضاً: إن كثيراً من أشعار العرب يقع عن غير روية، وهو مما يدعو إلى عدم التمكن من تخيّر الوجه الذي لا ضرورة فيه.
كما أن الشعر لمّا كان مظنة للضرورة استُبيح فيه ما لم يُضطرّ إليه، كما أُبيح قصر الصلاة في السفر؛ لأنه مظنة المشقة مع انتفائها أحياناً والرخصة باقية.
هذا الكلام قاله ابن هشام في رده على ابن مالك إذ زعم أن إيراد الضمير المتصل بعد "إلاَّ"في قول الشاعر:
وما نبالي إذا ما كنتِ جارتَنا
ألاّ يجاورنا إلاَّكِ ديارُ
ليس ضرورة، لتمكن قائله من أن يقول:
ألا يكون لنا خلٌّ ولا جارُ
ثم إن الشاعر قد يتاح له في حرارة التجربة الشعرية غير عبارة عن الفكرة الواحدة، لكنه لا يختار من الألفاظ إلا ما يأنس فيه الملاءمة التامة للمعنى الذي ينشده وإن ساوره قلق فني في دقة لغته، وقدرتها على التعبير عنه. فإذا ثبت هذا وأنه هو واقع الشعر اللغوي فإن التفكير بنفي الضرورة، ومحاولة استبدالها بما لا ضرورة فيه أمرٌ من الصعوبة بمكان على الشاعر، ناهيك عن الناقد اللغوي، والنحوي وذلك لتفاوت القدرات على تخيّل الألفاظ، واستحضارها من المعاجم الذهنية المختلفة في سعتها، وتنوعها، وصفائها.