للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وبهذا يظهر أن أدلة الفريق الثاني القائلين باستحباب تكرار الجماعة أصح وأصرح في الدلالة - كما لا يخفى.

ولكن المانعين للجماعة الثانية - وهم الجمهور - يقولون، إنما قلنا بمنع تكرار الجماعة إذا كان تكرارها يؤدي إلى اختلاف الكلمة ومفارقة الجماعة، ومنابذة الأئمة ووقوع العداوة، فالمقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة هو تأليف القلوب واتحاد الكلمة حتى يقع الأنس والمحبة بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الحقد والحسد، فإذا كانت الجماعة الثانية تؤدي إلى ضياع هذه المعاني وغياب هذه المقاصد وإبطال هذه الحِكم فلا تشرع.

وأيضاً فإن إطلاق القول باستحباب تكرار الجماعة، يُعطي ذريعة لأهل الزيغ والضلال والبدع لإظهار نحلتهم وإعلان بدعتهم. وفي ذلك حصول المكروه، لأجل هذا كله رأى هؤلاء القوم من أهل العلم منع تكرار الجماعة حفاظاً على وحدة الصف واتحاد الكلمة، ومنعاً لأهل الضلال والباطل من إظهار نحلتهم وبدعتهم.

قال الشافعي (١) : "... وإنما كرهتُ ذلك لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم قال: وأحسب كراهية من كره ذلك منهم، إنما كان لتفرق الكلمة، وأن يرغب رجل عن الصلاة خلف إمام الجماعة فيتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت دخلوا فجمعوا، فيكون في هذا اختلاف، وتفرق كلمة وفيهما المكروه، وإنما أكره هذا في كل مسجد له إمام ومؤذن، فأما مسجد بُني على ظهر الطريق، أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم ويصلى فيه المارة ويستظلون، فلا أكره ذلك فيه، لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت من تفرق الكلمة ...".


(١) الأم ١/٢٧٨.