وما هي إلا أيام حتى غادر عبد الله مسقط رأسه متجها بالقطار إلى دولة الخلافة المهزوزة، ثم لم يستقر له مقام حتى انتهى إلى البلد الذي أراده.. وفي استامبول استأجر غرفة متواضعة في حي قديم، ومضى يتفقد حلقات العلماء في مختلف جوامعها، حتى اطمأن قلبه إلى عدد من هؤلاء، فلزم حلقاتهم، يقضي بعض يومه على مدرّس الفقه، وبعضه على مدرس الحديث، وبعد العصر على أحد المقرئين المجوّدين للقرآن.. ولم يغفل أمر معيشته فالتحق بأحد مصانع التسوية يستأنف فيه ما سبق أن تعلمه في بلده قبل أن يمارس عمل التجارة، ولكنه لا يهب له وقته إلا ما يكفي لسد حاجته، كيلا يضطر إلى إنفاق ما في يده، فيصبح كلا على الناس، وذلك ما لا يتفق مع أخلاقه التي شب عليها.. وبدافع من نشاطه الذهني المتوقد أبدا كان كثير التتبع لأحداث البلاد، وملاحظة التطورات التي تمر بها دولة الخلافة في أعقاب الهزيمة.. ولعل أشد ما كان يؤلمه منها ذلك الاتجاه المعادي للإسلام، الذي تمثله عناصر المتفرنجين من الشباب العثماني مدفوعة –كما يقول شيوخه- بالأيدي الخفية التي تختبئ في أوساط الدولة –اليهود المتظاهرين بالإسلام-!.. وكانت الأحداث تتابع على عجل وبصورة لا تدع مجالا لأية معارضة، كأنما وراءها تخطيط شيطاني قصد به شل كل حركة إسلامية قبل بروزها إلى ميدان المواجهة.. حتى الاعتداءات الوحشية، التي قام بها متعصبة اليونان على العزل الآمنين في سالونيك وأخواتها، لم تكن في نظر هؤلاء الشيوخ إلا حلقة من سلسلة المؤامرة الكبرى على الإسلام نفسه، دفعتهم إليها الأيدي الخفية نفسها، ثم دفعت مصطفى كمال للرد عليهم –بعد تربص- لتوهم المسلمين أن هؤلاء وحدهم هم المنقذون الحقيقيون للشعب العثماني، وبذلك يؤمِّنون لأنفسهم الممر المنشود لتحطيم الخلافة وما تقوم عليه من بقايا الصرح الإسلامي!..