وكما فعل استامبول من قبل اتخذ لنفسه مسكنا متواضعا على مقربة من الجامع الأزهر، ولبث ما يقارب العام يتردد على حلقات الدروس يغذي معلوماته في التفسير والحديث، ويروض سمعه ولسانه على النطق العربي.. ولكنه سرعان ما ضاق صدرا بمهجره الثاني إذ لاحظ أنه لم يكد يتنقل من جو الحياة الشاذة في ظل الكماليين، لأن المعركة نفسها قد امتدت إلى الأزهر وما حوله، وإلى الصحف المصرية المختلفة المتضاربة، حتى أن العدوان الكمالي على الخلافة قد وجد في هذه الأوساط أنصارا من أصحاب العمائم، يؤيدونه ويباركونه ويدافعون عنه، ويؤلفون في تسفيه الخلافة الشهيدة الكتب والمقالات.. محاولين إقناع قراءهم بأنها لم تكن قط مصدر خير للمسلمين، بل لم تكن إلا مبعث الشقاق وملتقى الفتن والمحن عليهم أجمعين.
وعلى الرغم من أن الحق لم يعدم أنصاره بإزاء أولئك المضلين، إذ كان على أرس الفريق المؤمن أبطال ذوو علم ومنطق وإخلاص، يردون الكذب بالصدق، ويقذفون بالحق على الباطل، على الرغم من كل ذلك فقد آذى قلب هذا الهارب بدينه أن يرى في بلد الأزهر من تدفعه القحة إلى حد الوقوف بجانب قتلة الإسلام، الذين لا تزال مخالبهم تقطر من دمائه!.. ولم يلبث إلا ريثما تيسر له السفر إلى البيت الحرام لأداء فريضة الحج.. ومن ثم إلى طيبة المباركة لزيارة مسجدها الحبيب.. وما أسرع أن أنس بالمقام إذ احتواه شعور غريب بروح من حياة جديدة لا يعرف كيف يعبر عنه ولا يستطيع تحديد مصادره.. فقد كان يخيل إليه أن لكل ذرة من هذا التراب الذي يطؤه في ذلك البلد إيحاء خاصا، ولكل هبة من نسيمه، حتى المحمّل بالغبار في الكثير من الأحيان، لذة بهيجة.