وخلا الحاج في حجرته المغفية تحت مستوى سطح الأرض، يفكر في واقعه وأهله ويتركز ذهنه بوجه أخص على والدته العجوز التي بات أشد ما يكون لهفة إليها، على الرغم من يقينه التام بأن أخاه لن يغفل برها أبدا، فيطغى حنينه إليها على حنينه إلى زوجه وأطفاله الذين أودعهم رعاية الله وحده، وإن يكن قد زودهم بما يؤمن لهم حاجتهم إلى سنوات أخرى، ويستقر عزمه على استقدامهم إلى المدينة مهما كلفه ذلك من جهد ومال، ويكتب إلى والدته يصف لها حياته وآماله، ويستحثها لحزم أمرها على الحضور إلى بلد الرسول، وقد فوض إليها أن تتصرف ببيته وأثاثه فتبيع كل شيء، وتحضر مع أحفادها وأمهم إليه.. وينتظر الجواب في أرق وقلق، ولكن الجواب لم يحمل إليه ما يريد، بل ما تريده أمه وآله من حضوره هو إليهم!..
وتتردد الرسائل بينه وبينهم دون جدوى، إذ لم يتزحزح أحدهم عن موقفه قط.. ولم ير أن يسترسل مع عواطفه فذهب إلى أحد شيوخه يستشيره في أمره، فكان الجواب أنه لا بد له من طاعة والدته والشخوص إليها بأسرع ما يمكنه، وإلا فهو أسير ذنب ورهين معصية.. وبإزاء ذلك لم يسعه إلا أن يقتلع نفسه من تربة المدينة الحبيبة، ليعود إلى البلد الذي ما كان يتوقع أن يعود إليه يوما ما..
واتخذ سبيله عن طريق العراق فالشام فتركية.. ولاحظ أثناء عبوره ما أكد له أن محنة الإسلام هي هي في كل مكان "الانحراف إلى الحياة الغربية، والانصراف عن جادة الوحي الذي –في اعتقاده- لا عاصم سواه من الانهيار، ولما وصل مسقط رأسه من الجنوب اليوغسلافي، كان مشحون الصدر بالنفرة من كل بلد إلا مدينة الرسول.. ولذلك وقف جهده –منذ حلوله بين أهله- على مفاوضة والدته في أمر الهجرة، وجعل يزين لها النقلة إليها، والحياة فيها، والموت بين ذراعيها، حيث يتاح للمؤمن قبر كريم بجوار الصفوة الذين رباهم رسول الله على تعاليم السماء، فكانوا خير أمة أخرجت للناس..