وتتردد العجوز بين روابط الوطن ونوازع الإيمان.. حتى استحوذت عليها صورة البلد المفضّل، فأعلنت موافقتها، وبذلك انفسح الطريق للهجرة المنشودة.. وكان مشهدا مؤثرا عندما تزاحم ذوو قرابته يلحون عليه بمشاركتهم في هذه الرحلة، لأنهم –كما يعلنون- مثله متلهفون لجوار رسول الله، وخائفون على دينهم من السموم التي تجتاح من حولهم.. وكان أشد هذا المشهد تأثيرا منظر ذلك الشاب الذي غرق في دموعه وهو يستحلف القوم بالله ألا يدعوه وراءهم كالقمامة المنبوذة.. وراح يقسم بأغلظ الأيمان أنه تارك للخمر والمقامرة منذ الآن، وأنه لن يسيء إلى موطن الرسول بأي شذوذ عهدوه منه!..
ورق قلب الحاج عبد الله لذوي أرحامه فصمم على مشاطرتهم حظه، ورحم دموع ذلك الفتى الذي يغسل بها بواقي آثامه.. وما هي سوى أشهر معدودة حتى شرعوا يتسللون زرافات ووحدانا إلى موضع اتفقوا على التجمع فيه خارج يوغوسلافية، فلما استكملوا عدتهم خمس عشرة نفسا أخذوا سبيلهم بقيادة الرجل إلى مدينة جدة.. التي حطوا فيها رحالهم في الأول من ذي القعدة عام خمسة وخمسين بعد القرن الثالث عشر من الهجرة.. على أن الرجل الذي وضع لكل شيء حسابه في هذه المسيرة الطويلة، وجد نفسه فجأة تلقاء عقبات لم تعرض لتفكيره قط.. تلك هي الحدود الجديدة التي نصبتها التطورات التي أعقبت سقوط الخلافة بين ديار المسلمين، فمزقت الأمة أمما، وحالت بين أجزاء الأسرة الواحدة، التي توزعتها الأقطار، فلا سبيل إلى تلافيها إلا بعد اجتياز الأكداس من المصاعب، والأكثر من المتاعب، فبعد أن كان من حق المسلم التجول حيث شاء من عالم الإسلام دون ما حاجة إلى وثيقة سوى هويته الدينية، إذا هو اليوم تلقاء حواجز يحرم على المسلم تعديها إلا بجواز مرور!.. وجاءت أولى العقبات في صورة رسوم مالية تقتضيهم أن يدفعوا عشرة جنيهات عن كل فرد.. ثم مشكلة الإقامة التي لا سبيل إليها إلا بمعجزة من وراء المنظور!..