وفي هذه اللحظات كان التاريخ الإسلامي بل التاريخ العام يمسك قلبه بيده, ويكاد يكتم أنفاسه ليصغى إلى ما يمليه عليه الوزير القائد (بلطه جي باشا) ... أجل في هذه اللحظات تتقدم الإمبراطورة كاتريه الأولى من هذا الوزير وتلقي بين يديه بجميع ما كان لديها من حلي وجواهر, وربما ألقت بين يديه بشيء آخر مما يتيح لها أن تغلبه على قلبه وأخلاقه فيخون دولته المسلمة ويفوت عليها معركة من معارك التاريخ الفاصلة, ويصدر أمره بفك الحصار عن القيصر والإمبراطورة وجيشهما.. ومن هنا ومن هذا اليوم يبدأ ميزان القوي بين الدولتين بالتغيير لصالح روسية التي انطلقت في طريق التقدم والقوة بينما استمرت الدولة العثمانية في تأخرها وضعفها حتى لاقت الألاقي على يد روسية فيما بعد, وما تزال تركية الحالية تتوجس خيفة من أطماعها وبرامجها التوسعية ... وكذلك بدأ من قبل ميزان القوي بالتغير بين الأندلس وبلاد الفرنجة بعد معركة بلاط الشهداء التي خسرناها بسبب الحرص (الغنائم) , فجعلت الأولى تضعف وتتأخر, والثانية تقوى وتتقدم, حتى انتهت الأمور وعلى المدى الطويل بمأساة خروج العرب من الأندلس, وضياع ذلك الفردوس الإسلامي العظيم..
ويطالعنا التاريخ - وهو مصدر لا ينضب للمعرفة الاجتماعية والسياسية – بخبر آخر من المشرق من بلاد سجستان, يلتقي على حقيقة واحدة مع ما عرفناه من أخبار بلاط الشهداء, وأخبار (بلطه جي محمد باشا) في محاربة الروس, وهذه الحقيقة هي أن النصر مازال يحالف هذه الأمة ما تحررت من سلطان الدنيا بما فيها من متاع زائل, ومغنم شخصي عابر حائل, حتى إذا عبدت نفوسها للدنيا, وملكت ضمائرها لمنافعها الشخصية ذهبت ريحها, وانتزعت مهابتها من نفوس أعدائها, الذين استبدلوا بالخوف منها الجرأة عليها.