لقد مضت القرون الطويلة دون أن تنقل إلينا كيف استقامت الحياة لك في البصرة وأنت في هذه السن المبكرة؟ ها أنت ذا في مسجد البصرة تطوف الحلقات؛ حلقات الحديث وحلقات الفقه! وحلقات اللغة والنحو والأدب, لماذا اخترت حلقة الحديث من بين هذه الحلقات جميعا؟ ألأنّ حلقة الحديث كانت أغنى حلقة بالحاضرين وطلاب العلم؟ أم لأن علماء الحديث كانوا أعظم شأنا وأرفع منزلة؟ أم أنّ حبك الرسول والرواية عنه دفعاك إلى هذا الأمر؟ أم أن معلم القرية قد اختار هذا الطريق؟!
ها أنت ذا تجلس إلى المحدّث المشهور حماد بن سلمة، تُرى ما الذي أغراك بمجلسه؟ وسلكك في حلقته، أشهرة له طارت في الحديث؟ أمنصب الإفتاء الذي كان له في البصرة؟ أشخصيته القوية وهو يحدث الناس من حوله؟ أكثرة المحيطين به يستمعون إلى ما يقول؟ ومهما يكن من أمر فقد أردت شيئا، وأراد الله شيئا آخر.
ها أنذا أراك تسرع إلى حلقة حماد بن سلمة في كل يوم، حريصا على أن تأخذ المكان في الصف الأول، فذلك أدنى إلى أن تسمع إذا أصغيت, وأدنى إلى أن تجاب إذا ما سألت، ثم يجيء يوم ما أظنك نسيته طوال حياتك، ولم ينسه التاريخ رغم هذه القرون الطويلة التي تتابعت بعده, لا أدري ما الذي أخرّك هذا اليوم فجلست على مبعدة من حماد؟ فلما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد من أصحابي إلاّ وأستطيع أن آخذ عليه ليس أبو الدرداء", فصاح بك بن حماد:"لحنت يا سيبويه, ليس أبا الدرداء", ولا شك أنه رفع صوته بهذا النكير عليك! وأنه رفعه ليسمعك ويسمع من حولك، فحماد هذا هو الذي يقول:"مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار علية مخلاة ولا شعير فيها"؟!.