وسواء أفي هذا الحديث أخطأت أم في حديث آخر، وسواء أفي هذا الاستثناء عثرت أم في لفظة أخرى، فقد سمعت من حماد بن سلمة ما ملأ عليك جوانب نفسك، وجوانب المسجد, ما أكثر الذين عثروا مثل هذا العثار!! وما أكثر الذين تلقّوا مثل هذا الاستنكار! ثم انقضى الأمر كأن لم تكن هناك أذن تسمع، أو قلب يعي, ولكنك لم تكن من هؤلاء يا سيبويه، لقد كنت ذا أنف حمي، وقلب ذكي، فكانت صيحة حماد بعيدة الصدى بالغة الإثارة، فلم تطرق من خجل، ولم تسكت عن حياء، وإنما قلت لحماد - وفي لهجتك الحزم، وفي نبرات صوتك العزم-: "لا جرم لأطلبنّ علماً لا تلحنني فيه أبدا", وما أظنه قد طاب لك المجلس بعد هذا، وما أظنه قد طال, وإنما مضيت بعد هذه القولة المشهودة لطلبك، تنشد هذا العلم الذي لا يلحنك فيه حماد، ولا أحد غير حماد.
ما كانت بك الحاجة إلى أن تطوف بحلقات العلم في مسجد البصرة، فما أنت بغريب عن المسجد، وما أنت بغريب عن حلقاته، لقد عرفت من قبله حلقة عيسى بن عمر الثقفي، وعرفت مجالس الخليل بن أحمد، واستمعت إلى يونس بن حبيب، فلم تشتبه عليك السبل بعد صيحات حماد ولم يأخذك يأخذ الضعاف من تردد وحيرة وقلق إذا دهمتهم الأحداث، وفجأتهم الخطوب.
إنه ليخيل إليّ أنك لزمت الخليل بن أحمد بعد الفجر ووجه النهار وقبل الغروب، وعجت بمجالس يونس، كلما ألمّ الخليل ملمّ، أما شيخك الأول عيسى بن عمر فقد توفاه الله قبل أن تأخذ عنه الكثير.