حقّاً إن لقاءك بالخليل كان نعمة من عند الله مباركة, نعمة عليك وعليه وعلى اللغة، فقد نشرت للخليل علماً ما كان ينشر لولاك، وعلّمك الخليل علماً ما كنت لتصل إليه لولاه, وأفادت اللغة هذه القمة الذاهبة في السماء!! لم يبلغها كتاب في النحو على مدى العصور الطويلة التي تتابعت بعد, نعم لقد كان لقاء تعليميا موفّقا، وماذا يريد الطالب من أستاذه أكثر من أن يكون ضليعا في العلم، عميقا في الفهم، قادر على ابتكار الجديد المفيد، ذا خلق عظيم، لا يبتغي بعلمه الدنيا ولو قرعت عليه الأبواب، وهل كان أستاذك غير هذا يا سيبويه؟
وماذا يريد الأستاذ من تلميذه أكثر من أن يكون نهوم علم لا يشبع, وطلعة لا يقنع، وشابا جلدا لا يمل ولا يخور, وحفّاظا لا يضيع, وتقيا لا يغلبه الهوى, منظما لا يخلط الأمور, دقيقا يسبر الأغوار ولا يقف عند الظواهر، وهل كنت غير هذا يا سيبويه؟! أو ليس لهذا كله كان الخليل يقول كلما رآك قادماً عليه:"أهلا بزائر لا يملّ"ثم لا يقولها لأحد غيرك.
وتتعاقب الأيام والأعوام، ويأتي الخليل ما أتى على الناس من قبل، وتعود إلى البيت حزينا أسفا، فقد واراه الثرى، وسويت من فوقه الأرض ثم تسلوا مع الأيام وتكفكف قطرات من الدمع الباقية في المآقي، ولكنك تشعر بالفراغ يملأ المسجد ويملأ المنزل، وليس لدى يونس بن حبيب ما يشبع نهمك ويروي غلتك، إذن فلا بأس أن تجلس في مكان أستاذك الخليل تقول للناس ما كان يقول.