وهذا تأييد لرأي المتقدمين من علمائنا، ولكن فيه بعض الأوجه التي يباين بها القرآن الكريم النثر العربي، فهو مقيد بما يتصل بأواخر الآيات، وهو ذو نغمة موسيقية خاصة _ وإن كنت لا أستريح لوصف ما نحسه في كلمات القرآن بأنه نغمة موسيقية.
ونستطيع أن نزيد على ما قاله الدكتور طه:(الجو الخاص) الذي تتسم به كل سورة على حدة، حتى إن المتذوق للقرآن يدرك بحسه أن لكل سورة روحا خاصة، وطابعا خاصا، وطعما خاصا _ إن صح هذا التعبير _ وهو يستطيع أن يدرك حتى ولو كان نسي ما حفظ من القرآن أن هذه الآية من هذه السورة أو ليست منها.
وهذا شيء وجدته في نفسي، فقد كانت تمر بي الآية لا أعرف مكانها من سور القرآن فإذا خطر لي أنها من سورة كذا اطمأنت النفس إلى ذلك، أو نفرت منه، لأن فيها جواً خاصاً لكل سورة تستطيع باستحضاره أن تحس بأن هذه الآية من هذا الجو أو ليست منه.
وهذا المعنى يجول في نفسي منذ زمن بعيد، وأحس به إحساسا قويا، وقد هممت أكثر من مرة أن أعبر عنه، وأكشف بأسلوب واضح عن جو كل سورة، ولكني لم أستطع، أو قل ولكن وضوح هذا في ذهني لم يكن بالدرجة التي تستطيع قدرتي في اللغة أن تكشف عنه، فهو واضح في حسي كل الوضوح، ولكنه غامض عندما يريد العقل أن يعبر عنه بألفاظ اللغة.
وكم تمنيت أن يستطيع أحد من المتذوقين للقرآن الكريم أن يعبر عن هذا الإحساس ولو بأسلوب مقارب، إن لم تسعفه قدرته اللغوية على أن يكشف بوضوح تام.
ولأضرب لذلك بعض الأمثلة, أنظر _ مثلاً _ في سورة (النبأ) , وفي سورة (النازعات) وهما سورتان متجاورتان في المصحف، وفواصلهما أكثرها على الألف، ولكنك تجد إحساسك بإحداهما غير إحساسك بالأخرى، وأدل الدليل على ذلك أنك لو أخذت آية من إحداهما وأدخلتها بين آيات الأخرى لنبا بها مكانها، ليس فقط من جهة أن معناها ربما لا يتفق مع سياق الآيات التي أدمجت فيه، ولكن لأن نظمها وطابعها وطعمها، كل ذلك مختلف.