وذكر أن مما تميّز به القرآن عن بلاغة الناس (إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما، كقوله تعالى:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِك} . وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا صدر، ومثل هذا في القرآن كثير.
وابن حزم يوافق بذلك ما قاله الباقلاني، ولكنه أكد هذا المعنى لغرض آخر لم يتورع عن إظهاره، فعنده أن القرآن معجز، ولكن إعجازه جاء من منع الله العرب أن يعارضوه، ويسرف في ذلك إسارفاً غير مقبول ولا معقول حيث يقول:"وليس هو في أعلى درج البلاغة لأنه؛ لو كان كذلك _ وقد أبى الله عز وجل أن يكون _ ما كان حينئذ معجزا، لأن هذه صفة كل باسق في صفته، والشيء الذي هو كذلك، وإن كان قد سبق في وقت ما فلا يُؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه، بل ما يفوقه، ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أن الله عز وجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله، ورفع عنهم القوة في ذلك"[١١] .
ومن غريب ما ذكره هذا العالم الكبير في هذا الفصل أن كل كلمة قائمة المعنى إذا تليت على أنها من القرآن معجزة، لا يقدر أحد على المجئ بمثلها أبداً، وأن الكلمة المذكورة متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآنا فهي غير معجزة ". قال: "وهذا هو الذي جاء به النص، والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعمائة عام وأربعين عاما".
فابن حزم من القائلين (بالصرفة) وهو مذهب باطل، وقد أثبتُّ بطلانه في غير هذا الموضع [١٢] .
ثم إن من العلماء من اعتبر هذا التمايز هو سر الإعجاز، أو هو أحد وجوه الإعجاز، كما مرّ بنا في رأي الباقلاني، ومنهم من سلّم بالتمايز ولكنه أنكر أن يكون هذا هو سر الإعجاز، أو أحد الأسرار فيه.