ذلك أن طلبها للسلامة يزيّن لها الاستسلام فتمرض مرضا عصي، وتفسد حياتها فسادا ذريعا، فلا يبرؤها إلا أن تحب ما كرهته من الانتقاض على القعود ولا يتم لها هذا إلا بمعارضة نفسية داخلية تصرع فيها حوافز الكفاح والنضال المثبطات والمعوقات الذاتية، حتى يصبح الكفاح قاعدة الحياة وغايتها ولا يتحقق ذلك إلا بالمعاناة المريرة وإقحام النفس في المسالك الوعرة والشعاب الشاقة التي يتعثر فيها الصاعدون فتتمزق بالأحجار الناتئة أقدامهم وأيديهم وهم يتشبثون بأطراف الصخور ليصلوا إلى الأعالي، فمنهم من يستشهد ومنهم من يبلغ القمة ويركز فيها الراية. إن هذا لهو البلاء الحسن الذي ذكره الله تعالى فقال:{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً}[٨]
أجل إنه البلاء الذي يصنع نفوس الأبطال ويخرج خير الأمم والشعوب وبذاك يعيش المؤمنون تجربة الإيمان حية دفاقة قد دفعوا في ثمنها من دمائهم، فتغلو لديهم وتعلو، وتصبح الجزء الذي لا يتجزأ من وجودهم، بل تسمو عليه فلا يجدون الموت من أجلها كثيرا أو صعبا، فصار الدين بذلك أنفس النفائس لدى المؤمنين.
وإذا غدا القتال طريق الأمجاد ونشيد الفخار تسابق إليه المتسابقون وكثير طلابه، وخجل من تركه من خشي على نفسه السقوط في الاعتبارين الإلهي والاجتماعي وكل خطير من الأمور تهابه النفوس ابتداء ثم تألفه اعتيادا، وتحرص عليه لما يعطيها من خير، كذلك كان شأن المسلمين قبل بدر منهم من يؤثر الغنيمة الباردة، فلما وشفوا من رضاب النصر الأمل مجت أفواههم غيره، ودبت الغيرة في النفوس فصار الذين لم ينالوا شرف البدرية يتمنون لقاء العدو ليفوزوا بالأجر والفخر كما فاز بهما إخوانهم في بدر.
ما أسعد الأمة وأمنعها إذا كانت البطولة والجهاد مثلها الأعلى وما أشقاها وأهونها إذا رضيت باللين والترف والتخنث حظا وقسما.