وأيا ما كان الأمر،فقد تحركت وفود القبائل قاصدة المدينة، وقد بلغت من الكثرة مبلغاً كبيراً، حتى أن عددها قد جاوز عند ابن سعد سبعين وفداً، وما إخاله قد أحصاها جميعاً.
وقد بدا الرسول صلى اله عليه وسلم من خلال محادثاته مع هذه الوفود ذلكم الداعية الحكيم الذي يحرص كل الحرص على هداية الناس، وتبليغ رسالته التي أرسله الله بها، وتحقيق مصلحة دعوته التي تشكل جوهر العلاقات بين أمته وسواها من الأمم والشعوب.
وإن موقفه هذا لا يعروه تغير سواء مع وفود القبائل العربية، أو مع وفود الدول الكبرى كدولة الروم، فها إنه يبدأ رسول هرقل إليه الذي وافاه بتبوك أول ما يبدؤه بقوله:"هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟ "[٣٩] .
والخلاصة أن الأمة المسلمة هي في هويتها الأصيلة أمة (عقيدة ودعوة) وإن دعوتها إلى هذه العقيدة التي كرمها الله بها هي ملاك صلتها بالأمم والشعوب الأخرى، وأن هذه الصلة القائمة على العقيدة لتتخذ شكل منهجٍ متكامل العناصر ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها، وإن الحرب عنصر أساسي من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحة الدعوة وجوداً وعدماً، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه به الدعوة مختلف الاحتمالات والظروف، وما هدف هذه الحرب إلا إزالة العقبات والحوائل من طريق الدعوة التي تتمثل فيها المصلحة الحقيقية للبشرية قاطبة - كما قلنا غير مرة - وسأعود إلى هذه النقطة فيما يأتي من الكلام.
عهد الخلفاء الراشدين:
وقد استمرت صلة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى على هذا النحو الذي ذكرنا طول عهد الخلفاء الراشدين، وحسبنا أن نسوق للدلالة على ذلك مثالاً واحداً حدث في الجبهة الشرقية سنة أبرع عشرة للهجرة، قبيل نشوب معركة القادسية، وما أكثر الأمثلة التي تلتقي معه في الروح والدلالة.