ولما تحقق اليهود صحة ما سمعوا من أنباء معركة بدر خضعوا واستكانوا، وأظهر فريق منهم الإسلام رياء ونفاقاً [٣٢] وأخلدوا في جملتهم إلى مثل الهدوء الذي يسبق العاصفة، وفي النفوس ما فيها من الحقد والحسد يغليان غليان القدور... غير أن هذا الهدوء لم يدم، وما كان من المنتظر أن يدوم بل انكشف عن مؤامرات وتحركات وألوان من الاستعداد لضرب الدعوة ضربات قاضية.
فهذا عدو الله كعب بن الأشرف لما تحقق من صحة ما أذاعه زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة لم يطق صبراً، بل شد الرحال إلى مكة، وجعل يحرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر [٣٣] ، ولما رجع إلى المدينة من رحلته الآثمة هذه جعل يمعن في الإساءة للمسلمين، والتطاول على كرامتهم وأعراضهم، فشبب بنسائهم وآذاهم إيذاء لا يحتمل، وعندئذ لم يكن بد من وضع حد نهائي لنشاطه الهدام المعادي، بل لم يكن بد لمصلحة الدعوة التي هي في الحقيقة مصلحة الإنسانية قاطبة من بتره، وإزالته من عالم الوجود، وهذا ما حصل فعلا في ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم [٣٤] وبعد قتل هذا الأثيم الذي أكثر من الصد عن سبيل الله ومن الوقوف في وجه الدعوة، أهدر عليه الصلاة والسلام دماء اليهود جميعا، وأذن في قتل من ظفر به منهم جزاء وفاقاً لكيدهم للإسلام ونقضهم الميثاق الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة قاطبة بعيد الهجرة وتآمرهم على الدعوة وأهلها [٣٥] وعلى أثر إهدار دمائهم قتل محيصة ابن سبينة كما قلنا سابقاً.
إن كل ما ذكرناه آنفاً من بتر أبِي عفك، وعصماء بنت مروان، وكعب بن الأشرف، وإهدار دم من ظفر من اليهود، إنما كان تأديباً لهم على مستوى الأفراد، وكان هناك نوع آخر من التأديب، وهو التأديب على مستوى القبائل وذلك ما تحكيه لنا غزوة بني قينقاع...