أنا لا أنكر يا صديقي ما في هذا الكون من جمال وجلال وإبداع وإتقان وتناسق وروعة، فكيفما قلبت البصر في الأرض، وحيثما وجهت النظر في السماء، وأينما أرسلت العيون في هذا العالم، وجدت جمالا يأسر عيني وحسي وجلالا يملأ فؤادي ونفسي، وآيات وإبداع وإتقان مبثوثة في كل مكان.
وكأين من موقف وددت لو كان لي فيه ألف عين تبصر، وألف أذن تسمع، وألف حاسة تذوق وتستمع، وألف قلب يعقل ويخشع، وألف نفس تهتز إعجابا وانجذابا، وذهولا، ثم لا أملك إلا أن أخر ساجدا لوجه الله ذي الجمال والجلال والكمال والإبداع والإتقان.
ولكن ما حاجتك أنت إلى العينين، إذا كنت لا تبصر بهما إلا مواقع قدميك على الدرب، ولا ترى بهما إلا قطع الشطرنج وأوراق اللعب في ساعات الفراغ، ولا ترسلهما إلا في أصناف الطعام والشراب وأنت جالس على الموائد، ولا تتعرف بهما إلا أوراق النقد تقلبها بين يديك؟!
ما أكثر الذين أصابهم ما أصابك، ثم لم ينعموا بما كنت تنعم! لم ينعموا سبعين عاما ولا سبعين يوما ولا سبعين دقيقة، ومع ذلك اصطبروا وصابروا واستقبلوا قدر الله بسعة صدر وجلد، وشكر لله وحمد، ومضوا في هذه الحياة يجاهدون كما يجاهد المبصرون أو أشد، ثم فازوا فوزا عظيما، وقدموا لأنفسهم وللناس خيرا عميما، ما يزال يذكر ويؤثر، ويذاع وينشر، ويطوف بالأرض، وترويه الأجيال والعصور.
سبحانك يا إلهي!! ما أكثر النعم التي تهبها لهذا الإنسان!! ثم هو لا يشكرها ولا يذكرها ولا يأبه بها ولا يراها، وقد كان من قبل يتمناها، ويرى النعيم والسعادة في لقياها، حتى إذا ما ابتليته واسترجعتها منه، راح يبكي ويشكو، ويعول ويولول.
لا تحسب الإبصار كله ماتعا يا صديقي، فما أكثر ما تمر بالإنسان ساعات يتمنى فيها ألا يكون بصيرا!
ما حاجة الإنسان إلى عينيه حين يرى بهما ما رآه المتنبي حين قال: