وزاد القرآن التأكيد بذكر القلم.. والقلم من أعظم نعم الله على عباده.. إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس.. وبهذا تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين.. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ودرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذهب السلف. وكان معظم الخلل الداخل على الناس، في دينهم، ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا، من الضياع.. كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان [٣] .
وأول قسم في القرآن أقسم به رب العزة.. صدر بحرف من حروف الهجاء، وكان بالقلم وبما يسطر العالمون..قال تعالى:{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
فأول سورة نزلت من القرآن.. سورة العلق.. ومن العلق يخلق الإنسان، وكانت السورة التالية لسورة العلق، هي سورة القلم، وبالقلم يكتب ويتعلم الإنسان..
فإنسانية الإنسان لا تكون إلا بالخلق، ولا تتم إلا بالعلم..
وما ألطف قول الشاعر:
إذا افتخر الأبطال يوما بسيفهم
وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجدا ورفعة
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وأقسم الله سبحانه وتعالى في سورة القلم.. بالقلم والكتب، فتحاً لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام. فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر، فإنما ذلك لعظمة الخلق، وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب، فإنما ذلك ليعم العلم والعرفان وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية [٤] .
وما أروع لفظ {وَمَا يَسْطُرُونَ} حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير، بالرسم، والرمز، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك، من آلات، ومعدات حدثت أو ستحدث [٥] ..