إننا مازلنا منذ نشأنا نسمع القائلين ونقرأ للكاتبين أن سعيد بن المسيب كان حمامة المسجد النبوي لأن قلبه تعلق به عملا لا قولا، وانطبق عليه التوجيه النبوي الكريم ورجل قلبه معلق بالمسجد فكيف إذا كان خير مسجد بعد المسجد الحرام، لقد عرف فلزم فكان يواصل الخطا إلى المسجد وينتظر الصلاة تلو الصلاة، ويرى في العلم حق الصلاة وفي الصلاة حق العلم كلاهما مع الطهارة بكامل معناها مؤد إلى الآخر، ومتفاعل معه ورافع لشأن من لزمه، وقالوا إنه لم ينظر في الصلاة إلى قفا أحد لأنه لم يكن أمامه أحد، وقالوا إنه لزم الصف الأول أربعين سنة كان يتابع فيها الصوم ويسرده، وإنه مع فقهه العجيب لم يترخص في قبول هدية أو منحة، ولا قبِلَ عطاء من بيت المال مما كانوا يتقربون به إليه أو إلى أمثاله من الأئمة والعلماء، حتى يكون حرا لا سلطان لغير الله عليه رضي الله عنه، ولعله كان فيه الأسوة الكريمة للعلماء أرباب المواقف من أمثال ابن حنبل الذي أصيب بمحنة خلق القرآن، وأبي حنيفة ومالك وقد أريد كل منهما على القضاء فأبى كل الإباء.
قال ابن حجر في تاريخه: لما بايع عبد الملك للوليد وسليمان أبى سعيد ذلك فضربه إسماعيل بن هشام المخزومي ثلاثين سوطا وألبسه ثيابا من شعر وأمر به فطيف به في الأسواق ثم سجن.
فقاتل الله الظالمين، وجزى الله الثابتين على الحق والدين خير الجزاء آمين.
إنه يخيل إلي أن سعيد بن المسيب مع هؤلاء الظلمة كان أشبه بالمعشوق المعرض والمطلوب المدل، ولكنهم إنما كانوا يعشقون إقباله ليصرفوا قلوب الناس إليهم ويعتزوا بإقبالهم، ولكن له خطة في قلبه رسمها علم الدين، وانتهاج سنة الصالحين.
وبعد فإنني خشيت أن يتشتت بنا القول مع هذا البحر الخضم فلنجمع أهم ما يتصل به في طورين اثنين.