وأي فرق بين أن نتعارف نحن والمعاصرين أو بين أن نتعارف نحن والماضين عن طريق دراسة تاريخهم؟! إن كلا التعارفين سيجر- في أحوال معينة كثيرة- إلى إعجاب، فحب، وهذان يجران إلى التأسي والإقتداء... فإذا درسنا تاريخ الأنبياء، والأصحاب، والهداة، والأبطال عرفناهم، وأعجبنا بهم، وانتهينا إلى الاقتداء بهم على نحو من الأنحاء، وإذن فالتاريخ أداة تعارف، وحب، وأسوة، ومن ثم أداة ((تربية)) فعالة عظيمة أيضا، وهو -كما قلنا- أداة لتطبيق الآية الكريمة الآنف ذكرها.
والخلاصة أن التاريخ علم جم الفوائد، لا يكاد يستغنى عنه أحد، ولا سيما إذا كان ذا شأن أو مسؤولية، وكيف يستغنى عنه وهو -كما عرفنا- حكمة في فحواه، علم في منهج بحثه وتمحيصه، فن في عرضه وأدائه، وتأثيره وإمتاعه.
في دراسة التاريخ الإسلامي:
إن دراسة التاريخ الإسلامي-ولا سيما تاريخ الصدر الأول- دراسة تعليل واستبطان، لا تستقيم إلا لمن عرف العقيدة الإسلامية معرفة تذوق وممارسة، وعرف إشعاعاتها، وفيوضها، ومبلغ تأثيرها في تكوين شخصيات أصحابها، وتحديد معالم سلوكهم على مستوى الفرد والجماعة.
إن هذا التاريخ في حقيقته -إنبثاق من هذه العقيدة، وثمرة من ثمراتها، فهي منه بمنزلة السبب، وهو منها بمنزلة النتيجة، وأنى لباحث أن يعلل أمرا، وبينه وبين علته حجاب، فهو غريب عنها غربة معرفة، وتذوق، واستيطان، وممارسة.
إن أي باحث يحاول تفسير التاريخ الإسلامي-ولا سيما تاريخ الصدر الأول- سيأتي تفسيره مجانبا للصواب، ولعلنا لا نبالغ حين نقول: سيأتي تفسيره تخبطا ورجما بالغيب إلا إذا سلك فيه أو إليه طريق العقيدة الإسلامية وخصائصها، وإيحاءاتها، وما أودع الله تعالى فيها من نواميس قادرة على صياغة الحياة، وتكوين الإنسان على نحو ليس في متناول سواها من العقائد أو المبادئ...