ثم خفتت قطرات الضواء من أفق حياتي - لا تسلني يا صديقي كيف خفتت - إنها اختفت تحت غبار المعارك, وصليل السيوف, حينما ازدحمت الأجواء بالنقع, واختلطت الأشعة في الآفاق بالقتام والسهام. فقد احتدمت الفتن واصطدمت الجيوش, واحمرت المواقع, واصفرت الوجوه, وغاب عني البيان والأمان, فلم أدوِّن بين هذه الملاحم إلا الدموع والدماء, ولم أسجِّل إلا السلاح والجراح, في صراع دموي رهيب, تزهق فيه الأرواح الزكيّة التقيّة بيد أهلها وذويها, فكانت تسيل دماء القتيل لتنهمر دموع القاتل. إنّ قطرات الضوء لتتحرك معي, مندفعة من قلبي مع تصوير الشاعر الإسلامي لهذه المعارك, وما تسفر عنه من الفظائع والفواجع التي تتعانق فيها الدموع بالدماء, فيقول:
عليها بأيد ما تكاد تطيعُها
تقتِّلُ من وتْر ٍ أعزّ نفوسها
تذكرّت القُربي ففاضت دموعها [٥]
إذا احتربَتْ يوما ففاضت دماؤها
ثم ماذا أدوِّن بعد هذا, والدماء تسجّل على الرمال آلاف القتلى من عظماء المسلمين، إني أدوِّن لك - يا صديقي والحياء يغلبني - بعض الرسائل والوصايا والمحاورات, في لقاء للمجتمع, هين هادئ رزين.
وظللت بعد ذلك مستريحا, أترك مهمتي للأسماع, تعي ما يدور؛ من الشعر والطُّرَف, وأخبار المجالس, وأحاديث الأسمار.
ثم التقت قطرات الضوء على أوراقي مع إشراقة عهد جديد, طلع على الوجود مع أفواج حضارات غامرة باهرة, بدأت طلائعها تحمل في يديها أولى شعاعات العصر العباسي الأول.
وبدأت قطرات الضوء تشهد للكتابة والشعر ما أصبح صناعة خاصة وبراعة مونقة متقنة. تخصص لها أناس، واحترفها آخرون، وصعد على أشعة الضوء إلى أعلى المناصب كتّاب, وشعراء, وأدباء. عرفوا الكلمة وجعلوها سُلّماً إلى مطالبهم ومآربهم.