وسمة الدعوات الحية المخلصة التي تقتبس النور من مشكاة النبوة، وتسير على نهجها، أنها تجس نبض المجتمع جسا صحيحا أمينا، وتهتدي إلى الداء الحقيقي ومواضع الضعف في جسم هذا المجتمع، وتضع أصبعها عليها، وتضرب على الوتر الحساس، من غير محاباة أو مداهنة، ولا تكترث بألم هذا المجتمع أو ملامه، كما فعل شعيب في دعوته، فوجه دعوته ـ بعد الدعوة إلى التوحيد ـ إلى ايفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم، وشنع على التطفيف، إذ كان ذلك عيب المجتمع الذي بعث فيه، وسمته البارزة، وكذلك فعل غيره من الأنبياء.
وهذه كانت سنة الدعاة إلى الله من المخلصين الربانيين في تاريخ الإسلام، فكانوا ينتقدون المجتمع في الصميم، ويصيبون المحز، ولذلك كان وقع كلامهم في النفوس عظيما وعميقا، وما كان يسع المجتمع أن يتاغفل عنهم أو يمر بهم مرا سريعا، أو يسلي نفسه بأنه إنما يعنون غيره من المجتمعات التي لم تخلق بعد، وهذا كان شأن الحسن البصري في مواعظه إذ كان دائماً يشير إلى النفاق الذي داء المجتمع الإسلامي، وهو في أوج مجده ورخائه، ويذم حب الدنيا وطول الأمل، وهذا كان شأن الشيخ عبد القادر الكيلاني، فيدعو إلى التوحيد الخالص وقطع الرجاء، والخوف من غير الله وأنه لا يضر ولا ينفع سواه، أن الناس كانوا قد ربطوا مصيرهم بالخلفاء والأمراء وأصحاب الحول والطول والأمر والنهي في العاصمة، وهذا مان شأن ابن الجوزي في مواعظه، الساحرة، ومجالسة المزحومة، فإنه كان يشنع على الحياة اللاهية الماجنة التي كان يحياها كثير من الناس في بغداد، وعلى الذنوب والمعاصي التي كانت تقترف جهاراً، والمنكرات التي شاعت، فكان مئات وآلاف من الناس يتوبون ويقلعون عن الذنوب وكان نشيج يعلو وقلوب ترق، وعيون تدفع، وموجة من الإنابة والرقة تكتسح الجموع الحاشدة لأنه كان يمس القلوب ويصور الواقع، ولا يكتفي بالكلام العام والوعظ التقليدي [٨] .