وأيم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط وما ذلك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت".
قال شيخنا: "فلم يذكر أنه حده على شراب وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به". قلت: وقد احتج الفرزدق بهذه الآية الكريمة عند الخليفة سليمان بن عبد الملك حينما سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
فقال سليمان: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[١٧] . قال كاتبه غفر الله له: الظاهر أنه لا يقام عليه الحد لما سبق ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" [١٨] . فيكون تعلق الشاعر المقر بموجب الحد بهذه الآية الكريمة من أقوى الشبه الدارئة للحد عنه والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفائدة الثانية:
قال ابن العربي: "أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد فبذلك يقرب الملك الموكل بالرؤيا المثل وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم.
بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر عليه حتى في تشبيه ريقها الراح.
وقد كانت حرمت قبل إنشاده لهذه القصيدة ولكن تحريمها لم يمنع عندهم طيبها بل تركوها على الرغبة فيها والاستحسان لها فكان ذلك أعظم لأجورهم" [١٩] .