بعد كل هذا التمهيد والاسترسال، والتنقل من موضوع إلى موضوع لإبراز الوجه الحقيقي للإعجاز وهو النظم _ يعقد الجراجاني فصلا خاصا للحديث عن ماهية النظم، يتحدث فيه عن الفرق بين نظم الحروف الذي يأتي بحسب تواليها في النطق، وبين النظم الذي يأتي اقتضاء لمعنى وفي ذلك يقرر أن نظم الألفاظ يجب أن يقترن بترتيب المعاني، لأن المعاني هي الأساس الذي يجب أن يراعى عند نظم الكلام، ثم تأتي الألفاظ لتستوعب هذه المعاني، لأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها، ولاصقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها من النطق، وأعلم أنك إذا نفسك علمت علما لا يعترضه الشك إلا نظم في الكلم، ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبين بعضها على بعض، ولا تجعل هذه بسبب تلك [١٠] .
ويؤكد الجرجاني هذا المضمون في موضع آخر فيقول:"وأعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت، فلا تخل بشيء منها ... الخ"[١١] .
هذا هو محور بحث الجرجاني في إبراز وجه الإعجاز القرآني، كما وضح في كتابه دلائل الإعجاز. وهو نفس المحور الذي دار حوله لتأكيد وقوع هذا الإعجاز وإثباته في رسالته الشافية.. فلننظر كيف أثبت وقوع الإعجاز القرآني.. وكيف توصّل إلى ذلك في رسالته..