افتتح الجرجاني رسالته - كعادته في بحوثه - بمقدمة استعرض فيها علاقة الألفاظ بالمعاني - أو كما يقول البلاغيون: الشكل بالمضمون، وعلى طريقة المدرسين قال: "اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعا من اللفظ هو به أخص وأولى، وضروبا من العبارة هو بتأديته أقوم وهو فيه أجلى. ومأخذا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقبول أخلق، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل، وإذا كان الشيء متعلقا بغيره، ومقيسا على ما سواه، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام وتقريره في النفوس أن يوضع له مثال يكشف عن وجهه، ويؤنس به ويكون زماما عليه يمسكه على المتفهم له، والطالب علمه [١٢] .
إن المتأمل لهذه المقدمة، يستطيع أن يضع يده بسهولة على ما يرمي إليه الجرجاني خاصة بعد أن درسنا مفهومه..
إنه يودّ أن يقول: إن القرآن الكريم بنظمه وتآليفه، قد حاز هذه الفضيلة، وإن هذا النظم كان مدعاة لأن يعترف العرب الذين تحدوا إلى معارضته، أن الذي سمعوه تقصر دون محاكاته قوي البشر، ويضيق به ذرع المخلوقين لأنه كلام رب العالمين. وتأكيدا لهذا الأمر يقدم لنا جُملا من القول في بيان عجز العرب حين تُحّدُوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائت للقوى البشرية، ومتجاوز للذي يتسع له ذرع المخلوقين، وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم، وبعلم الأدب جملة.
ثم يتحدث الجرجاني عن بلاغة العرب، وتملكهم لزمام القول.. ولما كان القرآن معجزة الرسول الأميّ، لذا كانت بلاغته فوق بلاغة العرب أنفسهم، الذين دانت لهم الأساليب، وتملكوا كل شيء فيها شعرا ونثرا وخطبا..