من هنا سمعنا صوت الجرجاني وهو يتحدث طويلا عن البلاغة العربية، وعن التفاوت والتفاضل بين أساليب العرب من كلام الشعراء والأدباء، وأن لهذا التفاضل غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها فوق بعض، ليصل إلى حقيقة يعرفها وهي: أن العرب (زمن الرسول الكريم) كانوا القدوة في ذلك. ومن عداهم تبع لهم وقاصر فيه عنهم.. يقول:
((ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضا، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب، ومن عداهم تبع لهم، وقاصر فيه عنهم وأنه لا يجوز أن يدّعى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم _ الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطيها لما لم يكملوا إليه [١٣] .
ويقدم الجراجاني شواهد على ذلك من واقع المجتمع العربي يومئذ..
فهذا خالد بن صفوان يعترف بسبقهم، وأنه وأمثاله لا يستطيعون مجاراتهم.. ويقول:"كيف نجاريهم وإنما نحاكيهم، أم كيف نسابقهم، وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم؟ "[١٤] .
أما الجاحظ فإنه ينسب إلى العرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة ويناظر في ذلك الشعوبية، ويجهلهم ويسفّه أحلامهم في إنكار ذلك، ثم يقول: "ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة، من القصيدة والأرجاز، والمنثور والأسجاع، ومن المزدوج ومما لا يزدوج.. فمعنا على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعار الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والشيء القليل [١٥] ..