للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كيف؟ وأن الشاعر أو الخطيب يبلغه أن بأقصى الأقاليم الذي هو في هـ من يبأى [١٦] بنفسه ويدل بشعر يقوله أو خطبة يقوم بها أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحميَّة ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل، ويبذل ما لديه من المنَّة، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه ببعض العلل وبنوع من التمحُّل، هذا ولم ير ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيِّج على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التعرض، وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أدعى له إلى مباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يَقْصُر عنه، أو أنه منه أفضل، فإن تضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مُمَاتَنَتِه، ويحركه لمقاولته، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته.

يضرب الجرجاني لذلك مثلا بما حدث في العهد الأموي بين الشعراء عامة، وما حدث بين جرير والفرزدق خاصة، وقد اجتمعا في عصر واحد فيقول:

"كيف جَدَّ كل واحد منهما في مغالبة الآخر، وكيف جعل ذلك همه وكده وقصر عليه دهره، وليس به ولا يخشى إلا أن يُقضى لصاحبه بأنه أشعر منه، وأنّ خاطره أحَدّ، وقوافيه أشرد، لا ينازعه مُلكا، ولا يفتات عليه بغلبته له حقا، ولا يلزمه به أتاوة، ولا يضرب عليه ضريبة..".

وبعد أن يكشف الجرجاني عن هذه الغريزة المتأصلة في النفس البشرية، وكيف أن الناس فُطروا على منافسة بعضهم البعض، وتحدي بعضهم بعضا.. يطبِّق هذه الفكرة على ما حدث في الأمة العربية منذ فجر تاريخهم الأدبي، وكيف استبدت بهم هذه الغريزة يوم سمعوا القرآن، ليصل من وراء ذلك إلى مَرامه وهو:

إظهار موقف العرب من القرآن الكريم الذي جاء يتحدى هذه الغريزة في موطنها وعقر دارها فيقول: