فما قامت لهم قائمة وتفرقوا في كل وجه"، وذكر ابن عبد البر، بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: مر علينا أبو سفيان بن الحارث فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هلمي يا عائشة حتى أريك ابن عمي الشاعر الذي كان يهجوني، أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج منه، لا يجاوز طرفه شراك نعله"، فقد روي أنه رضي الله عنه ظل لا يرفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حياء منه حتى مات، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بكى عليه كثيرا ورثاه بقصيدة مؤثرة موضحة في كتب السيرة، ولما حضرته رضي الله عنه منيته، بكى عليه أهله فقال لهم: لا تبكوا عليّ، فما تنطفت بخطيئة منذ أسلمت، انتهت القصة أو أكثرها، فابن الحارث إبان كفره لم يكن سلبي الكفر، بمعنى أنه لم يقف عند تكذيب ابن عمه صلوات الله عليه كما فعل كفار غيره، اكتفوا بإعطاء ظهورهم للرسول واتجهوا منكبين على أصنامهم، أما هو فقد جسَّم كفره بلسانه وسيفه يظلمان معه على امتداد عشرين عاما قضاها خصيما لمن هو عند الله أكرم الخليقة حتى نذر دمه، ومع هذا كله وَجد عند الله الترحاب في أوسع رحاب لما فرَّ إليه من كفره {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، فما عذر الكافر إذا بقي بعد ذلك على كفره والعاصي إذا بقي على معصيته، وثاني ما في قصة ابن الحارث أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع إسلام ابن عمه في بوتقة امتحان الإيمان، ابتداء من الإعراض عنه أول ما لقيه إلى أن احمر جمر يوم حنين، فأثبت رضي الله عنه أن الإسلام ألبسه حلة العزة لما قال يومها عن الرسول: والله يعلم أني أريد الموت دونه، وعندئذ فاز بأعلى وسام يوضع على صدور الأعزة على الكافرين، ساعة أن قال له القائد صلوات الله عليه: "أخي لعمري"، فما بال أمتنا اليوم رغبت عن التزين بهذا الوسام، ولماذا نكس علم الجهاد وبقاعنا الغوالي في كل مكان تنادي منقذيها؟ سؤال معلوم جوابه،