ثم رتب جيشه في صف منتظم، وتخيّر للمقدمة أفراداً من الذين يوزنون بالمئات، وأمر ألاّ يباشر قتال إلا بإذنه، ولما نشب العراك انطلق المسلمون يعملون في نظام عجيب من توجيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكأنهم حجر الرحى تدور حول قطبها، فهي تميل يمنة ويسرة، ولكنها لا تنفض عن دائرة القطب، ولعل مرد التماسك في هذا النظام ثقة الجيش جميعاً بحكمة القائد ووجوب الطاعة له، فليس هناك جندي واحد إلا وفي صدره يقين مطلق بأن مصير المعركة يتوقف على مدى انسجام الجنود في إرادة الرسول - صلى الله عليه وسلم- نفسه، ومن هنا كانت قلوبهم متعلقة بإشارته، يديرها في الاتجاه الذي توحي به الحكمة..
وهكذا سارت المعركة في اتجاهها الطبيعي..، وفي غمرة الاندحار الهائل شعر قادة الوثنية بعجز آلهتهم عن الصمود في وجه هذا الدم الجديد الذي دفعه الإسلام في شرايين جنوده..، وأدركوا أنهم أمام القوة التي لا تقهر، ولا تثبت لها حمية الجاهلية، مهما تبلغ هذه الحمية من الاستخفاف بالموت..، إنها القوة التي مزّقت صلات العصبيات والمنافع الأرضية لتقيم على أنقاضها وشائج أخرى من قرابة العقيدة..، وبذلك أزالت سلطان الأسر وحواجز الأنساب، لتجعل من الأفراد المتنابذين المتباعدين أسرة واحدة في أخوة جديدة دونها كل روابط الأرض..
أجل لقد كان مستحيلاً لقوة من البشر أن تتماسك في وجه هذا السيل الجارف من القوى التي يحارب بها محمد -صلى الله عليه وسلم-..، اللهم إلا أن تنقلب هذه القوى على نفسها فيحطم بعضها بعضاً..، وهيهات..، ما دام زمام هذه النفوس الجديدة في يد هذا القائد الجديد..
ولكن لا..، لقد حدث ما لم يكن في الحسبان، وهاهي ذي قوة محمد -صلى الله عليه وسلم- يتسرب إليها الخلل فجأة، كما يداهم محرك القلعة الطائرة، فإذا هي تهوي عن عرشها السماوي إلى القرار السحيق!..